شعار قسم مدونات

في ذكرى رحيل يحيى حقي.. ماذا تعرف عن قنديل الشرق؟

blogs يحيى حقي

تحل الذكرى السادسة والعشرون على رحيل يحيى حقي في التاسع من شهر ديسمبر الحالي، هل يمكن للشرق أن ينسى – مهما تقلبت الأيام وتبدلت العصور – صاحب قنديل أم هشام، ينبغي علينا في هذه المناسبة أن نتذكر كاتبا مصريا ترك للثقافة العربية ثروة هائلة من المؤلفات التي تنوعت ما بين القصة والرواية والمقالة والترجمة. وهذا الأديب طرح آراء فكرية مختلفة، فرأى أن لكل فرد ذوقه الخاص ومقاييسه المتعددة لا فرق بينن أمير وخفير أو بين عالم وجاهل أو بين غني وفقير، وعلى هذا المبدأ لم يكن يحيى حقي لينفي عن الأميين المعرفة والخبرة والحذق، وكان يحتفل في الكتابة بالأسماء المجهولة والفقراء الذين يعيشون في الظل أو على الهامش لا يشعر بهم أحد، رغم أنه في حياته العامة -كسفير ووزير مفوض- كان على وثيقة الصلة برؤساء الدول والسلاطين وكبار الشخصيات ومن بين هذه الشخصيات الملك فؤاد والملك فاروق.

وعن اللغة يرى أيضا أن العربية كالإنجليزية والفرنسية تعتبر من اللغات الأكثر قدرة على التركيز والإيحاء، بهذه السمة الممتازة التي يدركها جيدا الكتاب النحارير يتحقق النضج الفني الذي تختفي فيه المعاني بين السطور، أما مادة الفن فإن يحيى حق لا يفرق بين الجميل والقبيح لأن العمدة عنده في التعبير قوة الأسلوب وهذه القوة تنبع من باطن النص. ولعل هذه القوة هي التي دفعت يحيى حقي إلى كتابة الجملة عشرات المرات حتى يطمئن إليها قلبه، وكل كلمة فيها توضع في مكنها المناسب، وليس لها بديل، ومع هذا كله لا يستغني قط عن مراجعة وتنقيح ما يكتبه بعد أن ينتهي من الكتابة، وهذا ما كان يحثه على التنقيب في مسودات الكتاب المشهورين وفي رسائلهم الخاصة كي يستشف منها أسرار الصنعة من خلال ما في أوراقهم من حذف أو إضافة أو تعديل.

ومن الغريب أن يكون ليحيى حقي هذا الهوس باللغة وهذا الاهتمام بالأسلوب الذي نراه في آثاره ولا يكون عضوا في مجمع اللغة العربية الذي رأسه طه حسين ووصف إحدى قصصه بأنها قطعة من الأدب الممتاز الرائق حقا، وأكبر ظني أنه لو ضم إلى مجمع الأدباء الخالدين الذي من أهدافه أن تفي اللغة العربية بمتطلبات العصر لخدم اللغة العربية خدمة تعز على غيره من أعضاء المجمع لأنها تصدر عن فنان يعيش ماضيه وحاضره بكل أبعادها. وكان أديبنا يجيد الترجمة التي أحبها ومارسها، ولم يكن يطمئن إلى صحتها وتأثيرها في ثقافة الأجيال الجديدة لأنها غالبا ما تكون تقريبية لا توافق نصوصها الأصلية، والأدب العالمي لا يحتمل هذا النوع لأن الترجمة التقريبية بالغة الخطورة، فلا بد من أن تكون الترجمة أدبية تعيد للنصوص بيانها الأصلي بلا تغيير ولا تكون شرحا أو تفسيرا أو تلخيصا يفتقد روح النص.

قنديل أم هشام
يمكن أن نعتبر رواية قنديل أم هشام رواية رمزية لأن السمة البارزة لقصة الحدث الرمزي أنها قصة تكتب أساسا من أجل تقديم موضوع ما تقديما دراميا، فيسبك الكاتب موضوعه وفكرته في إطار درامي قصصي رمزي

قنديل أم هشام هي من روائع الأديب المصري يحيى حقي، كتب الأديب هذه الرواية عام 1944، وتمت ترجمتها إلى كثير من اللغات، وهذه القصة الطويلة تعبر عن أزمة التفاعل مع الحضارة الغربية، ويرمي هذا النوع من القصص والروايات إلى الحفاظ على الذات العربية في خضم الموجة الأوروبية العاتية على الوطن العربي في العصر الحديث.

والقصة تدور أحداثها على الشاب إسماعيل الذي استوطن أبوه التاجر الحاج رجب حي السيدة زينب،، وكان يتمنى أن يكون ابنه طبيبا شهيرا، لكن ابنه الذي كان دائم التفوق في سنوات الدراسة أخفق أخيرا في الحصول على درجة عالية تؤهله لدخول كلية الطب الذي قصد أبوه أن يلتحق بها، فأرسله الأب إلى أوروبا ليدرس الطب هناك، فانتقل الابن إلى أوروبا فدرس سبع سنوات، وصار ماهرا في الطب لدرجة ينال بها إعجاب أساتذته، ويتعرف على الفتاة الجميلة ماري التي تعرفه بمباهج الحضارة الأوروبية ولذاتها المحرمة عليه في وطنه، ويكتشف الشاب عالما غريبا مختلفا عن عالمه الشرقي وبدأت نظرته إلى الحياة تتغير فبعد أن كان يؤمن بالله إيمانا عميقا أصبح مؤمنا بالعلم فقط.

ثم عاد الابن إلى وطنه بعد دراسته، فوجد أن مجتمعه غارق في قعر الجهل والخرافة، فكره إسماعيل هذا الشعب بتخلفه وقذاراته واستسلامه للعادات والتقاليد الموروثة لأن الجهل والخرافة امتد كلاهما حتى قبض على عنق ابنة عمه فاطمة النبوية التي تضع أمه قطرات من زيت البترول المأخوذ من قنديل أم هشام في عينيها معتقدة أنه قادر على شفائها، فثار الشاب، واحتدم غيظا، وحاول تحطيم قنديل أم هشام. وعلى جانب آخر يفشل في علاج ابنة عمه من المرض، رغم أنه عالج حالات أصعب منها في أوروبا فيقرر الشاب اعتزال المجتمع، ويعيش مدة طويلة في تأملاته وأفكاره وخواطره ثم يقوده التفكير إلى طبيعة الشعب المصري الخالدة، ويعود إليه إيمانه ويتزايد إعجابه بهذا الشعب. وبعد فترة يظهر هذا الشاب مندمجا مع الخرافات التي يؤمن بها أهله، ويسأل كمية من الزيت يستخدمهه في علاج فاطمة وينجح في علاجها ثم يتزوج منها ويعيش كلاهما حياة سعيدة، ثم يفتتح عيادة طبية يخصصها لعلاج الفقراء والبسطاء، ولا يتقاضى منهم أجرا كبيرا ويكتسب حب الناس شيئا فشيئا، وبعد عمر مديد يموت، ويتذكره الناس بالخير، ويستغفرون له.

رواية رمزية

ومن المستطاع أن نعتبر هذه الرواية رواية رمزية لأن السمة البارزة لقصة الحدث الرمزي أنها قصة تكتب أساسا من أجل تقديم موضوع ما تقديما دراميا، فيسبك الكاتب موضوعه وفكرته في إطار درامي قصصي رمزي، ولذا يمكن أن نعد قنديل أم هشام رمزا للعادات والتقاليد الموروثة. وبإمكاننا أن ننظر أيضا إلى شخصية رئيسة تشارك إسماعيل في بطولة القصة – هي شخصية فاطمة النبوية – بشيء من الرمزية، وهي ابنة عم إسماعيل، وهذه الفتاة انتظرته في غيبته وتطلعت إليه بكل حب، وأزعمت على أن يكون هو الذي ينقذها مما تعانيه من عمى، إنها مصر التي تتطلع إلى أولادها المثقفين لينقذوها من عمى البصيرة ومن الوقوع فريسة للجهل والتخلف.

كانت الرؤية الفكرية لهذه القصة تقوم على إبراز الصراع بين الشرق والغرب ويرى الكاتب في الجانب الغربي ألوانا من التقدم الحضاري لا يفوته أن يرصد الجانب الآخر، وهو افتقاد الجانب الروحي والإنساني
كانت الرؤية الفكرية لهذه القصة تقوم على إبراز الصراع بين الشرق والغرب ويرى الكاتب في الجانب الغربي ألوانا من التقدم الحضاري لا يفوته أن يرصد الجانب الآخر، وهو افتقاد الجانب الروحي والإنساني
 

وقد كان الكاتب موفقا جدا عندما جعل فاطمة على قدر ضئيل من الجمال، رغم أنها ليست فاتنة ولا ساحرة ولا جذابة أحبها إسماعيل ويتعلق بها في النهاية، وهذه بالحق رؤيتنا لوطننا، إننا لا نراه أجمل البلاد العالمية، بل هناك الكثير من البلاد التي تفوقه جمالا وعلما وحضارة، ومع ذلك نتعلق به ولا نتركه. لقد كانت شخصية الأب في القصة منذ البداية ترفض القيم الغربية بقضها وقضيضها، فالأب رمز للأصالة والانتماء إلى الجذور، وهو حين ألحق ابنه بجامعة أوربية كان مضطرا فعلا، فأدى هذا إلى الصدام بين الأب وإسماعيل وهو رمز للصدام بين القديم الأصيل والحديث الوافد من الغرب، ونرى أن الأب لا يقبل اتهام إسمعيل للمصريين بالتخلف والجهل، ولا يسلم بانتقاده لزيت المصباح.

كما كانت الرؤية الفكرية لهذه القصة تقوم على إبراز الصراع بين الشرق والغرب ويرى الكاتب في الجانب الغربي ألوانا من التقدم الحضاري لا يفوته أن يرصد الجانب الآخر، وهو افتقاد الجانب الروحي والإنساني، ويعبر عن ذلك كله من خلال الشخصيات الثانوية تعبيرا رمزيا. وتنعكس هذه الجوانب السلبية في الحضارة الأوروبية من خلال شخصيتي ماري البريطانية زميلته في التعلم، ومدام إفتالي الإيطالية التي سكن في فندقها الصغير عقب صدامه مع مجتمعه، وفشله في علاج فاطمة النبوية، وانفراده بعيدا عنهم ليعيد التفكير في واقعه، وتشتركان المرأتان في كونهما أجنبيتين، ومن ثم يجوز اعتبارهما رمزا للحضارة الغربية، وكل ما فيهما من مساوئ يمكن اعتبارها من عيوب الحضارة الغربية.

تنتقد ماري الأوروبية سلوك إسماعيل الشرقي في عطفه على الفقراء قائلة: "أنت لست المسيح ابن مريم، من طلب أخلاق الملائكة غلبته أخلاق البهائم إن هذه العواطف الشرقية مرذولة مكروهة"، فهذه الكلمات تدل على موقف أوروبا من الصدقة والعطاء والجود، لكن العالم الشرقي يهتم بها اهتماما بالغا ويمدح كل من يعين الفقراء والمساكين. أما مدام إفتالي فأعطاها إسماعيل بعض الفطائر والسجائر فأخذتها شرهة متلهفة، وفي الصباح أمرته بألا يطيل السهر في حجرته حرصا على الكهرباء، إنه لون من ألوان الأنانية والطمع، وسلوكيات هذه المرأة الأوروبية هي التي دفعته إلى إعادة تقييم موقفه من الحضارة الغربية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.