شعار قسم مدونات

"النكتة".. ماذا لو حققنا معها باعتبارها مُجرما؟!

blogs ضحك

في اجتماع غير رسمي جمعني ببعض المهندسين والمدراء زملاء العمل، وكنّا مختلفي الانتماءات الدينية والمذهبية، السنّة وأنا واحد منهم والشيعة والعلوية والمسيحية وشيوعيو التوجه، وكانت الأحاديث مختلفة ومتشعبة ثم انتقلت بشكل عادي إلى "التنكيت" للضحك والتسلية، وحتى هذه اللحظة كانت الأمور تسير بشكل طبيعي إلى أن ألقى أحد المدراء من الطائفة العلوية نكتة سياسية: "إن بشار توفي فجأة وكان عمر ابنه حيدرة ثمانية أشهر، فاجتمع مجلس الشعب وقرر تعديل الدستور بحيث يصبح ممكنا لمن عمره ثمانية أشهر وفوق أن يتسلم منصب الرئاسة، فخرج الشعب السوري في مظاهرات تأييد لقرار مجلس الشعب وللتعديل الدستوري هاتفا: انكغغغغغ …انكغغغغ ..أمبوووووووو" فضحك الجميع بدرجات متفاوتة وضحكت معهم، ثم ساد صمت حذر!

 

خرجت من القاعة لأمر ما فلحق بي أحد الزملاء وكان من الإخوة المسيحيين وتربطني به صداقة جيدة، سحبني من يدي بعيدا عن باب القاعة وعلى وجهه ترتسم علامات قلق. استغربت تصرفه وزاد استغرابي حين نظر اليّ قائلاً: "ماذا فعلت؟" قلت له:" ما هذا السؤال؟ وماذا فعلت لتسألني وأنت بهذه الحالة الغريبة؟" ردّ قائلا وبنبرة مشددة: "ما هذه الضحكة التي ضحكتها على "نكتة" المدير فلان؟" قلت له وأنا في غاية الدهشة: "نعم ضحكت فقد كانت النكتة طريفة فعلا وأسمعها أول مرة، ثم لست الوحيد الذي ضحك فالجميع ضحكوا وبصوت عال". قال لي: "أنت مسلم سني، غير مسموح لك أن تضحك على نكتة سياسية أمامهم، هذا سيسجل عليك يا صديقي وأخشى أن تُسأل عن ذلك".

استعدت المشهد من جديد بدءاً من وجه المدير الذي ألقى النكتة منتقلا بذاكرتي عبر كل الوجوه على اختلاف انتماءاتها، ولشدّ ما أثار انتباهي ضحكة المدير وشخصين آخرين من نفس الطائفة. فعلا لم تكن ضحكتهم صافية النية بل كانت كأنها ملصق من ملصقات الفيس بوك حيث تنقلت عيونهم بين الحضور وكأنها تلتقط صوراً لوجوههم وتفاعلها مع النكتة.

النكتة ضيف خفيف لا يحتاج للاستئذان:

نعم يا صديقي، النكات ليست كلها بريئة كما يعتقد البعض، ويبدو أن لها وظائف شتى لا تقتصر على الجانب السياسي فحسب بل تتعداه إلى جوانب كثيرة، وتدخل إلى مسارات شتى لخدمة أهداف موضوعة سلفاً. فالنكتة بما تتمتع به من طرافة وفكاهة وذكاء تدخل إلى النفوس بشكل سلس وتمنحها شعور بالبهجة يستدعي الضحك، ولهذا اعتبرت وسيلة مهمة من الوسائل التي يستخدمها أصحاب المشاريع والأهداف الخفية.

لماذا نحن؟
ما أكثر النكات الطريفة الجميلة التي تُظهر الحشاش أو المحشش وكأنه شخصية خفيفة الدم، ذكية، لماحة، حكيمة، محببة إلى النفس وقريبة منها، فتنطبع بذلك في خيال المراهقين هذه الصورة المحببة

لا يشك أحد بأن وطننا العربي تحت دائرة الاستهداف من محيطه إلى خليجه لما يتمتع به من ميزات كثيرة وموارد غزيرة، ولهذا كان عرضة للاستعمار المباشر في حقبة تاريخية مضت وانتهت، إلا أنها استمرت بأشكال أخرى من خلال الديكتاتوريات المرتبطة التي تنفذ أجندات المستعمر وبرامجه بكل إخلاص وتفان على حساب المصلحة الوطنية والقومية. إن استمرار السيطرة على الشعوب المقهورة يقتضي إدخال أسلحة جديدة في أتون المعركة التي لم تهدأ ضدهم يوما ولن تنتهي، ومن هذه الأسلحة الخطيرة "النكتة" التي قد لا نلقي لها بالا ولا ندرك تأثيرها، بل نسعى بسذاجة لتمريرها ونشرها والمساهمة في تفعيل دورها.

هل النكتة شريك في المؤامرة؟

ربما ينبري بعض الذين ينكرون نظرية المؤامرة للنفي الشديد لهذا الكلام ودحضه واعتباره منضويا تحت هذه النظرية، لكن الوقائع أيضا تدحض فكرتهم بكل تأكيد، خذ مثلا ما رواه لي أحد الأصدقاء خلال تأديته العمرة مع صديقه الذي يشغل منصبا رفيع المستوى في وزارة الأوقاف في إحدى الدول العربية، حيث اضطر هذا المسؤول للعودة الى بلاده بعد تلقيه اتصال من وزيره. تواصل صديقي معه بعد فترة وسأله في معرض الحديث عن سبب عودته المفاجئة فأجاب: "لقد ألقت السلطات القبض على خلية تتعامل مع جهة مخابراتية خارجية يقتصر عملها على استلام النكات المرسلة ثم نشرها من خلال جلسات المقاهي ومناطق الازدحام العامة، وتتمحور هذه النكات حول الاستهزاء بالدين وقيمه وشعائره بأسلوب فَكِه يدعو للضحك مما سيدعو من يستمع إليها إلى نشرها من جديد، وما هي إلا فترة وجيزة حتى تتعمم على مساحات جغرافية واسعة وشرائح عريضة من المجتمع" طبعا هذه الحادثة كانت قبل التطور الكبير في وسائل التواصل الذي سهل بشكل كبير عملية النشر.

النكتة متهم خلف القضبان وهذا هو الادعاء:

طبعا من الواضح أن الهدف من هذه النكات غير البريئة هي نزع صبغة الاحترام والتقدير التي تربت عليها أجيال المجتمع للقيم الدينية التي تشكل الأساس القيمي لتوجيه المجتمع وتصحيح أخطائه وفقا لما يريده الله والإسلام، فالكثير من الناس المتدينة فطريا تعتبر هذه القيم مقدسات يمثل احترامها صمام الأمان للمجتمع، وانهيارها أو انهيار مكانتها في نفوس الناس سيفقد المجتمع مرجعيته الأخلاقية والدينية الضابطة لسلوكية أفراده ككل، وهذا يبدو خطوة متقدمة لحساب الأجهزة الخارجية تضمن لهم الدخول السهل في النسيج المجتمعي والتلاعب فيه وتوجيهه وفقا للمقاصد والأهداف الموضوعة.

الأمر لا ولم يقتصر على القيم الدينية فقط، فخذوا مثلا "المعلم" الذي يعتبر أهم مرتكزات بناء المجتمع من خلال دوره المحوري في العملية التربوية والتعليمية، فلو استعرضنا النكات التي تجعل من المعلم مثار سخرية واستهزاء في عيون تلاميذه لأدركنا فعلا حجم الكارثة، وكم تم العمل عليها بدقة واحترافية لتؤتي أكلها في كل جيل، فواحدة من النكات الشائعة تقول: قال المعلم لتلاميذه: "من يجد نفسه غبيا فليخرج ويقف هنا" فلم يخرج سوى تلميذ واحد سأله المعلم: "لماذا تشعر بأنك غبي؟" فأجابه التلميذ: "أنا لست غبيا يا أستاذ ولكن أردت أن أؤنسك حتى لا تكون وحيداً"! وغالب النكات على المعلمين تستقصد معلم اللغة العربية ليتم ضرب عصفورين بحجر واحدة، حيث يتم الاستهزاء والتسخيف لكليهما. ماذا نتوقع من جيل ينظر إلى معلمه وإلى لغته هذه النظرة المليئة بالهُزء والسخرية؟! فمن المعروف أن نجاح العملية التعليمية يرتكز على هذين الركنيين واحترامهما وحبهما.

هناك جانب إيجابي في النكتة واستخدامها لا أريد إغفاله، فمن المجحف أن نغفل دورها في التنفيس عن الشعوب المقهورة تحت حكم الأنظمة القمعية، حيث يتم توجيه النقد من خلال النكتة لكل مظاهر الفساد
هناك جانب إيجابي في النكتة واستخدامها لا أريد إغفاله، فمن المجحف أن نغفل دورها في التنفيس عن الشعوب المقهورة تحت حكم الأنظمة القمعية، حيث يتم توجيه النقد من خلال النكتة لكل مظاهر الفساد
 

إن استهداف التعليم لم يقتصر على المعلم فقط وإنما تجاوز ذلك الى تنفير الطالب من المدرسة والدوام فيها، وهنا سأنقل ما كتبته الأستاذة منى صالح العلي في مقالة بعنوان "هي مجرد نكتة": (ينهال على أجهزتنا الذكية مع بداية كل فصل دراسي جديد، أو اقتراب نهاية أي إجازة رسمية، موج عارم من الرسائل والفيديوهات الساخرة، والتي هدفها تشويه تعليمنا، وتصويره بأبشع الصور، وكأنه هادم اللذات، وجامع الحسرات، فتبدأ المشاعر والقلوب بالاستجابة لتلك الرسائل والصور وإرسالها مرة أخرى لتغزو كثير من القروبات والأسماء، فيقرأها الصغير قبل الكبير، المتعلم قبل الجاهل دون معرفة ما تحمله تلك المنقولات (النكت) من خطر جسيم علينا وعلى أبنائنا.

 

ومما يُثير العجب والدهشة هو سرعة تداولها وانتشارها لتكون بسرعة البرق أو أشد سرعة، بحيث لا يخلو موقع اجتماعي منها. فهل سألنا أنفسنا مرة واحدة قبل المساهمة في نشر هذه النكت وبثها: من هم مخرجو هذه الرسائل ومطلقوها؟ وما الهدف من نشرها؟). وفي متابعة استقصائنا لهذا الفيروس الخطير سنجد أنه دوره وخطره يتسع ليشمل كيان الأسرة بدءاً من علاقة الزوج بزوجته إلى علاقته مع أم زوجته (الحماية) ولا نستثني علاقة الأبناء بالوالدين فهي الأخرى لها نصيب وافر من الاستهداف.

النكتة وسيلة لتشجيع التعاطي:

يعتبر تعاطي الحشيش آفة اجتماعية تشهد انتشارا في كثير من مجتمعاتنا وخاصة بين الفئات الشبابية، وما أكثر النكات الطريفة الجميلة التي تُظهر الحشاش أو المحشش وكأنه شخصية خفيفة الدم، ذكية، لماحة، حكيمة، محببة إلى النفس وقريبة منها، فتنطبع بذلك في خيال المراهقين هذه الصورة المحببة، ولا يجد هذا المراهق غضاضة بأن يكون هو نفسه مجسدا لهذه الشخصية من خلال التعاطي.

سلاح ذو حدين:

أخيرا، هناك جانب إيجابي في النكتة واستخدامها لا أريد إغفاله، فمن المجحف أن نغفل دورها في التنفيس عن الشعوب المقهورة تحت حكم الأنظمة القمعية، حيث يتم توجيه النقد من خلال النكتة لكل مظاهر الفساد والملاحقة الأمنية لكل شاردة وواردة، فهي إذن سلاح ذو حدين، فكما يستخدمه الناس للتعبير عما بداخلهم، تستخدمها أيضا جهات مخابراتية محلية أو خارجية لتحقيق الأهداف المرسومة. إن خطر النكتة اليوم يبدو أكبر وأشد تأثيرا في ظل التطور الكبير في وسائل التواصل الاجتماعية التي تُستخدم في نقلها بيسر وسهولة ولشرائح كبيرة وأعداد فلكية خلال وقت قصير جدا. التوعية من هذا الخطر الداهم واجب على كل مخلص وواع لحماية مجتمعاتنا من الاختراقات الفكرية المدمرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.