شعار قسم مدونات

هم كذلك مثلنا

blogs احتجاجات السترات الصفراء

المتتبع للمظاهرات والمواجهات التي شهدتها فرنسا في الأيام الأخيرة في خضم احتجاجات ما يعرف بحركة "السترات الصفراء"، والملاحظ لردود الفعل والأحداث التي خلفتها، يخلص إلى أننا معشر العرب وعموم المحكوم عليهم بالعيش فيما يصطلح على تسميته بالعالم الثالث، نشترك مع المحظوظين من سكان الغرب والعالم المتقدم في أشياء كثيرة. فأول ما تكشف عنه هذه الأحداث أن لهؤلاء القوم أيضا نخبهم السياسية التي يكرهونها ويتهمونها بالفساد وينسبون إليها كل الشرور التي تحوم من حولهم، فهم أيضا بينهم أفراد وجماعات يؤمنون أن الأحزاب السياسية إنما هي قنوات للارتقاء في السلم الاجتماعي والاغتناء عبر بيع الكلام والوعود والأوهام.

 

ومثلنا تماما، منهم من لم يطأ اسمه قط كشوف الانتخابات، ولم تطأ قدمه قط مركز اقتراع، ولم يسترع اهتمامه قط مرشح ولا منشور انتخابي ولا برنامج سياسي، ولا يقرب مؤسسات الدولة إلا إذا اضطرته الحاجة إلى وثيقة لا مناص له من طلبها. هم أيضا لديهم من لا يؤمنون لا برئيس ولا بوزير ولا بمدير، ولا بحزب ولا نقابة ولا جمعية، ولا يهمهم لا تغيير ولا إصلاح ولا تنوير، بل كل ما يشغل بالهم هو خبزهم اليومي وما يُلقمون أبناءهم وأفراد أسرهم. هم كذلك لهم أثرياؤهم الذين يستأثرون بالثروات ويتركون للباقين الفتات، ونخبهم الاقتصادية والسياسية والثقافية التي تعيش وتفكر في واد وتتركهم في أودية الحياة يهيمون، وتخطط برامج ليست بالضرورة ما يرى هؤلاء "البؤساء" أنها أولويات.

 

ومن الطرائف والمفارقات التي مرت علي في تقرير لقناة فرنسية عن مظاهرات السترات الصفراء، أن أحد المتظاهرين استهزأ بنواب البرلمان لأنهم في أوج الأزمة واشتداد أوار المظاهرات، يناقشون قانونا يمنع ضرب الأطفال، وإمعانا في الاستهزاء قال ساخرا: "هل هذا وقت مناقشة ضرب الأطفال في مؤخراتهم؟". فعلى الرغم من أهمية القانون المذكور، وعلى الرغم من إيجابياته التي يدافع عنها مقدموه، فإن هذا المتظاهر لم ينظر إليه إلا من زاوية "خبزه اليومي" الذي يدور عليه الكون في نظره، ويجب أن تتفرغ الدولة كلها من أجله.

 

من أبرز مواطن الشبه التي أسفرت عن نفسها مع اندلاع مظاهرات السترات الصفراء أن هؤلاء "المحظوظين" في الغرب هم كذلك غير راضين عن إعلامهم، ويرون أنه يشوه الحقائق ويطمسها

هم أيضا لديهم حرب أرقام ضروس تدور رحاها بينهم وبين حكوماتهم ومؤسساتهم الرسمية التي تنظر إلى مظاهراتهم بعيون غير تلك التي يرون بها أنفسهم وهم يرتدون ستراتهم ويبنون خيامهم أو يحملون لافتاتهم ويغلقون الشوارع ويحشدون الناس. فلا تمر مظاهرة أو تجمع من تجمعات السترات البيضاء إلا سارعوا إلى تأكيد أن الأرقام التي تروجها الشرطة عن حجم الحضور ليست صحيحة، وأنها تتعمد التهوين من حجم احتجاجاتهم، وتلك لعمري إحدى اللازمات التي تتكرر في عالمنا الثالث بين المتظاهرين والسلطات.

 

هم أيضا يخرج عليهم رئيسهم ويخطب فيهم ويقول لهم إن ما يفعلونه لا علاقة له بالتظاهر السلمي وإنما هو عنف يستدعي التدخل الحازم للحفاظ على هيبة الدولة، فيردون هم أيضا بأن في مظاهراتهم من يسمونهم بالمندسين والمخربين الذين لا بد أن جهة ما أرسلتهم لتخلط الأوراق وتشوه سمعة المحتجين، وتبرر قمعهم ووأد ثورتهم. هم كذلك يتهمون أحزابهم ونقاباتهم وسياسييهم بالركوب على موجة الغضب الشعبي وترويضها وتحويل وجهتها نحو مبتغياتهم ومصالحهم الحزبية.

 

ومن أبرز مواطن الشبه التي أسفرت عن نفسها مع اندلاع مظاهرات السترات الصفراء أن هؤلاء "المحظوظين" في الغرب هم كذلك غير راضين عن إعلامهم، ويرون أنه يشوه الحقائق ويطمسها، ويؤكدون أنه لم يفرد لاحتجاجاتهم ما تستحق، وبعضهم يذهبون إلى حد اتهامه بأنه لا ينطق إلا بإذن أولياء نعمته. هم أيضا يقفون أمام الشرطة ويهتفون "الشعب والشرطة يد واحدة" في محاولة لاستمالة رجال الأمن وإفهامهم أنهم لا يتظاهرون ضدهم، بل يعتبرونهم جزءا من الشعب الذي خرجوا للهتاف من أجله.

 

هم أيضا يحرصون على ترديد النشيد الوطني الفرنسي من حين لآخر ليكون حائط صد ضد من قد تسول له نفسه اتهامهم أو تخوينهم أو تفسير شعاراتهم وهتافاتهم على غير ما هتفوا من أجله. هناك عندهم أيضا يتداولون مقاطع فيديو لسيارات خاصة وسيارات شرطة تلتهمها النيران، ومحلات ومكاتب تهشمت واجهاتها، وممتلكات عامة تم تدميرها. كل ما سبق وغيره كثير يدل على أننا نشترك مع أخينا الإنسان في الغرب فيما يسميه الفيلسوف الفرنسي غوستاف لوبون "سيكولوجية الجماهير"، كما يدل على أن الشغب لا جنسية له، وأن المكر والتحايل السياسي لا وطن له، كما دلت حوادث أخرى من قبل على أن الإرهاب لا دين له.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.