شعار قسم مدونات

الاستعمار.. ومحاربة العربية الفصحى (2)

blogs اللغة العربية

بدأ الصراع بين الفصحى والعامية عندما طالعنا الأوروبيون بدراساتهم في اللهجات العربية، التي بثوا عن طريقها دعوتهم إلى اتخاذ العامية أداة للتعبير الأدبي. فكان لهذه الدعوة أثرها في مختلف البلاد العربية. هاجمها البعض وأيدها البعض الآخر، وأصبح لكل من الفصحى والعامية أنصار وخصوم يشتد الصراع بينهم حيناً ويهداً حيناً أخر.
 

استمر الصراع بين الفصحى والعامية يشتد حيناً ويهدأ حيناً آخر، وكان يبلغ ذروته في بعض الأحايين كلما انطلق بوق من أبواق الاستعمار مردداً الدعوة إلى اتخاذ العامية لغة أدبية. وقد قامت العديد من الصحف والمجلات – آنذاك- بتسجيل هذا الصراع، فقد قامت مجلة المقتطف بتسجيل هذا الصراع بين الفصحى والعامية عقب ظهور كتاب " سبيتا"- وقد اشرنا إليه في المقال الأول- ، وكذلك مجلة الأزهر، قامت بتسجيل هذا الصراع عقب محاضرة " ولكوكس" المعنونة بـــ" لمَ لم توجد قوة الاختراع لدى المصريين الآن" سنة 1893م، والتي ادعى فيها أن العامل الأكبر في فقد قوة الاختراع لدى المصريين، هو استخدامهم العربية الفصحى في القراءة والكتابة، ونصحهم باستخدام العامية في الكتابة لكي يصيروا مخترعين، وبالرغم من الجهد الذي بذله، لم تخف مراميه، وقام المصريين بهتك استار دعوته على صفحات مجلته الأزهر التي اتخذها مسرحاً لدعوته.
   

اقتران الدعوة إلى العامية بحركات التجديد والإصلاح

هذه الدعوة إلى العامية التي انتشرت في مصر عقب الحملات التي شنها الأجانب على العربية الفصحى، لتمكين العامية من احتلال الميدان الأدبي والعلمي، أخذت تواصل طريقها بعد ذلك متسللة خلال حركات التجديد والإصلاح التي تناولت اللغة العربية الفصحى وآدابها. اقترنت بحركة التمصير، واقترنت بحركة إصلاح نحو العربية وكتابتها ومنتها، واقترنت بحركة التجديد المتطرفة في الأدب التي تريد أن تقطع صلتنا بالأدب القديم شكلا ومضموناً.
  

اقتران الدعوة بحركة التمصير:
قاعدة التسامح في استعمال المفردات والتراكيب العامية ستتسع في الأجيال المستقبلية إلى درجة تصير فيها الفصحى في كتابها الكريم ضرباً من اللغات الأثرية

ظهرت حركة التمصير بظهور القومية المصرية في أواخر القرن التاسع عشر وتبعتها في أطوار نموها حتى بلغت أشدها بعد ثورة سنة 1919م. والقومية المصرية من النزعات الانفصالية التي خلقتها السياسة الاستعمارية لا في مصر وحدها، بل في مختلف البلاد العربية. ومن هنا نشأت حركة تمصير الأدب والفن بمختلف أنواعه من رسم ونحت وموسيقى، وكان مما تناولته أيضاً اللغة العربية الفصحى، فقام دعاة التمصير يقترحون الأساليب التي تعين على تحقيق ما يدعون إليه. فقام أحمد لطفي السيد داعية القومية المصرية الأول أو منشئ الوطنية الحديثة كما كانوا يسمونه يدعو الى تمصير اللغة العربية. فكتب في تمصير اللغة العربية سبع مقالات نشرت في صحيفته " الجريدة" سنة 1913م وراح في هذه المقالات يدافع عن فكرته ويشرحها ويدعوا إلى الأخذ بها.

ولضيق المقال، لن نتناول هذه المقالات السبعة كاملة، بل سنقتصر عل عرض مثال على دعوة الرجل، ففي مقاله الذي يحمل العنوان "إلى الأمام في اللغة العربية" وهي المقالة الثانية، أخذ يضع اللبنة الأولى في تمصير اللغة العربية، أو على حد قوله شروط عقد الصلح بينها وبين العامية التي يتكلمها سكان القاهرة بنوع خاص، وهي أخذ أسماء المستحدثات الأجنبية من اللغة اليومية.

 

فاستهل المقالة بقوله: "الأوتموبيل والبسكليت والجاكته والبنطلون والجزمة والمودة كل هذه الأسماء ما ذنبها حتى تهجر في الكتابة إلى غير الألفاظ التي نحاول انتحالها مع التكلف لنعبر بها عن هذه المسميات.. إلى قوله، وذلك مؤخر للغة مؤخر للبيان والفصاحة مؤخر للتقدم من جميع الوجود". وأخذ يسخر من الأسماء التي وضعت للأشياء المستحدثة، ومن الغريب أن بعض هذه الأسماء التي سخر منها أصبحت مألوفة من العامة قبل الخاصة مثل سيارة ودراجة.

وقد طبق الكاتب هذه الفكرة عملياً في كتاباته فاتخذ الأسماء الأجنبية من لغة الحياة اليومية واستعمل التراكيب والتعبيرات المصرية. هذه الفكرة كان لها صدى كبير في الأوساط المصرية على اختلافها فوجدت معارضين ومؤيدين. أما المعارضون فلم يخف عليهم ما انطوت عليه فكرة التقريب بين الفصحى والعامية في مناصرة للعامية ومحاولة للتدرج في رفعها إلى الاستعمال الكتابي بعد أن فشلت الدعوة إلى استعمالها خالصة والاكتفاء بها بدل العربية الفصحى.

وكان في مقدمة من عارضها وبين خطورتها مصطفى صادق الرافعي وذلك في مقال له تحت عنوان " تمصير اللغة" واعتمد في معارضته على مجموعة من الأدلة سنقتصر على ذكر بعضها، منها: أن قاعدة التسامح في استعمال المفردات والتراكيب العامية ستتسع في الأجيال المستقبلية إلى درجة تصير فيها الفصحى في كتابها الكريم ضرباً من اللغات الأثرية، ويشبه الكاتب قاعدة التسامح اللغوي هذه بالقاعدة الاستعمارية التي تبتدئ بالتسامح للمستعمرين والغزاة في أخذ الشيء القليل، ثم تنتهي بالتسامح في كل شيء قل أو كثر. وغيرها من الأدلة والكلام مما يطول في عرضه هنا.

وبالمقابل، كان من أكثر الأدباء تحمساً لفكرة تمصير الأدب لغة وموضوعاً محمد تيمور، فقد أثرت نزعته إلى تمصير لغة الأدب القومي في مؤلفاته وخاصة النثرية التي كتبها باللغة العربية الفصحى، فجعلته يقحم بعض ألفاظ العامية وأمثالها في كتابه، كما فعل في قصصه القصيرة التي سماها "ما تراه العيون". وقد شارك محمد تيمور في نزعته إلى تمصير الأدب لغة وموضوعاً كثير من الأدباء نذكر منهم: شقيقه محمود تيمور وحسين هيكل وتوفيق الحكيم.. وغيرهم.
 

اقتران الدعوة بحركة تيسير نحو العربية وكتابتها ومتنها:

لا أريد هنا أن أتعرض لمناقشة الآراء التي نادت بوجوب تيسير نحو العربية الفصحى وكتابتها ومتنها.. وإنما أريد أن أبين فقط أن بعض أصحاب هذه الآراء قد ضمنوا آراءهم نقداَ شديداَ قاسياً للعربية الفصحى ومناصرة صريحة واضحة للعامية، وكانت ذريعتهم في ذلك صعوبات الفصحى التي زعموا أنهم يريدون تذليلها.

كان في مقدمة أصحاب هذه الآراء الذين استطاعوا عن طريق إيهام الناس بخدمة اللغة العربية الفصحى التنفيس عن ميولهم إلى العامية، عبد العزيز فهمي أحد شيوخ مجمع اللغة العربية وذلك في الاقتراح الذي قدمه إلى المجمع بشأن تيسير الكتابة العربية، والذي دعا فيه إلى استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية. فقد قدم لاقتراحه بمقدمة انطوت على رغبته في إقصاء اللغة العربية الفصحى وأسفه الشديد لعدم تمكن اللهجات المحلية من احتلال مكانها. نقتبس منها الفقرة الآتية كما جاءت بنص أقواله: "كلنا أصبح يعلم علماً ضرورياً أن اللغة كائن كالكائنات الحية ينمو ويهرم ويموت، مخلفاً من بعده ذرية لغوية متشعبة الأفراد هي أيضاً في تطور مستمر، ولم يستطع قوم للآن أن يغالبوا هذه الظاهرة الطبيعية، فإن التطور يكبح شراسة من غالبه".

 

دعاة تجديد الأدب العربي المتطرفين رأوا أن يقطعوا كل صلة بين الأدب العربي القديم الذي أصبح في نظرهم لا يتصل بحياتنا ولا يلائم أذواق شبابنا، وبين الأدب الجديد الذي يدعون إليه ويريدون أن يوجهوه وجهة غريبة تلائم حياتنا العصرية ومنهم سلامة موسى
دعاة تجديد الأدب العربي المتطرفين رأوا أن يقطعوا كل صلة بين الأدب العربي القديم الذي أصبح في نظرهم لا يتصل بحياتنا ولا يلائم أذواق شبابنا، وبين الأدب الجديد الذي يدعون إليه ويريدون أن يوجهوه وجهة غريبة تلائم حياتنا العصرية ومنهم سلامة موسى

ولهذا كان لاقتراح عبد العزيز فهمي خطورته وهي خطورة لم تأت مما تضمنه من حملة على العربية فحسب، بل من مكانة صاحبه العلمية والاجتماعية. ولكن رغم هذه الطعنات التي وجهها الى العربية الفصحى في مقدمة الاقتراح وفي ثناياه ليجمل الناس على قبول دعوته إلى استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية، لم تلق دعوته قبولاً من السواد الأعظم من أبناء العربية في بيئاتها المختلفة. إلا أقلية ممن عرفوا بعدائهم للعربية الفصحى.
  

اقتران الدعوة بحركة تجديد الأدب العربي:

وجدت الدعوة الى العامية منفذاً عن طريق الدعوة إلى تجديد الأدب العربي. ذلك لأن بعض دعاة تجديد الأدب العربي المتطرفين رأوا أن يقطعوا كل صلة بين الأدب العربي القديم الذي أصبح في نظرهم لا يتصل بحياتنا ولا يلائم أذواق شبابنا، وبين الأدب الجديد الذي يدعون إليه ويريدون أن يوجهوه وجهة غريبة تلائم حياتنا العصرية. ومن هؤلاء المجددين الهدامين الذي نالوا من اللغة العربية الفصحى عن طريق النيل من الأدب القديم: سلامة موسى.

وقد ضمن كتابه "الأدب للشعب" آراءه في الأدب القديم الذي يريد أن يقضى عليه، والأدب الجديد الذي يدعو أليه. أما الأدب الجديد الذي يدعوا إليه فيرى أنه يجب أن يتجه وجهة غربية حيث النور والعلم والحضارة. " وفي وقتنا الحاضر في مصر والاقطار العربية يجب أن يكون الأدب كفاحاً نحارب به رواسب القرون المظلمة". فهو يعتبر الأديب المجدد " من يكتب للشعب بلغة الشعب المستطاعة". هذا التعريف للغة الشعب أي لغة الأدب الجديد إذا حققناه على ضوء آرائه في العامية، نجده لا يعني به سوى اللغة العامية وإن كان قد أضفى عليها هذه الأسماء الجذابة مثل اللغة الديمقراطية أو اللغة الميسرة. وفي النهاية، تجدر الاشارة إلى أن هذا الكلام مأخوذ من كتاب (تاريخ الدعوة إلى العامية) للدكتورة نفوسة سعيد، مع بعض التصرف والتنسيق. إلى لقاء في مقال ثالث.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.