شعار قسم مدونات

"غاندي العنصري".. عندما يكذب التاريخ!

blogs غاندي

تمكن طلاب وأساتذة في جامعة أكرا بجمهورية غانا من انتزاع حكم قضائي يلزم الحكومة بإزالة نصب تذكاري للزعيم الهندي مهونداس كارمشاند غاندي وُضع في الحرم الجامعي منذ عامين، وأثار تمثال "المهاتما" موجة سخط كبيرة بسبب المواقف العنصرية التي صدرت عنه ضد السكان الأصليين السود إبان إقامته في جنوب إفريقيا، التي عمل بها محامياً خلال فترة شبابه.

 

"نحن الهنود أسمى وأفضل من الأفارقة المتوحشين"، هذه عبارة وردت في أحد الخطابات التي كتبها غاندي عام 1894، وتكرر هذا الوصف في كتابات أخرى تظهر النظرة الدونية التي كان "محرر الهند" ينظر بها إلى أصحاب البشرة السوداء. بل إن خطابات ووثائق كشفت أن غاندي لم يغير هذه القناعة العنصرية عندما عاد إلى بلاده ليقود مقاومته السلمية ضد الاستعمار البريطاني، وكان يصنف الأقليات السوداء في الهند ضمن الطبقات الدنيا في المجتمع.

 

المتلقي والقارئ لم يعد وعاءً يستقبل كل ما يسكب فيه من نصوص دون تمحيص أو مراجعة، بل أصبح التشكيك في النص ومصداقيته سمة سائدة لدى المتصفح وطالب المعلومة

ولئن أجمع المؤرخون –أو جمهورهم الأعم- على تصنيف غاندي ضمن الشخصيات الخالدة في تاريخ البشرية، ونصبوه رمزاً للنضال ومقاومة الاستعمار، إلا أن الباحث فيما وراء سطور الإشادة والتفخيم التي تقترب به من مراتب التأليه سيجد نكتاً سوداء قاتمة، تثير تساؤلاً مفاده: هل أغفل كتّاب السير هذه المساوئ عمداً لكيلا تشوه الصورة التي يودون نقلها للمتلقي؟ أم أنها سقطت سهواً ولم تجد من يبحث عنها؟

 

إن نقل الصورة الناقصة هو في الواقع صياغة لكذبة كاملة، وكثيراً ما بنيت استنتاجات ومسلمات على قصص تاريخية محرفة، وأخشى أن كثيراً من أبطال التاريخ وشخصياته ليسوا سوى كذبة منمقة، صاغها مؤرخ "حكواتي" لا يعير أهمية لأمانة النقل وقداسة المعلومة.

 

ولك أن تتخيل لو أننا ما زلنا في عصر المرويات الشفوية ما سيكتبه مؤرخو زمننا عن بطولات ترمب وصولاته، ولعلنا سنسمع عن كتاب "الإشارة إلى اغتيال خاشقجي في السفارة"، و"بطولات بشار الأسد الذي حارب الجن والإنس لبقاء البلد"!

  

إن حاجتنا اليوم لنقد التاريخ ومراجعته باتت ماسة أكثر من أي وقت مضى، فسرعة انتشار المعلومة وتوفر المعارف وسهولة الوصول إلى الوثائق والكتب تفرض تحدياً كبيراً على العاملين على صياغة المعرفة أو تأطيرها، فالمتلقي والقارئ لم يعد وعاءً يستقبل كل ما يسكب فيه من نصوص دون تمحيص أو مراجعة، بل أصبح التشكيك في النص ومصداقيته سمة سائدة لدى المتصفح وطالب المعلومة، نظراً لكثرة ما يراه من تفنيد لوقائع كانت حتى الأمس القريب مسلمات لا تقبل الشك.

 

ونجاح المبادرة التي أطلقها طلاب وأساتذة جامعة أكرا في إزالة نصب غاندي من حرم جامعتهم، بعد الحملة الإلكترونية والشعبية التي أطلقوها لتبيان الصورة الحقيقية التي أغفلها المؤرخون أو تغاضوا عنها، ينبغي أن تكون منطلقاً لإعادة النظر بشكل علمي موثق في مسلماتنا التاريخية، وأن يبادر الأكاديميون والمتخصصون في المجال لإطلاق حملات مماثلة في منطقتنا العربية التي عانت أكثر من غيرها من كذب التاريخ. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.