شعار قسم مدونات

"حرية، ديمقراطية، مساواة، مشاركة".. أفكار في السياق السوداني

blogs السودان

لا توجد أدلة كافية لحدوث تنمية بمعزل عن الحرية

– أمارتيا سن 

"الديمقراطية ليست حل لحظي يجلب للناس آمالهم المسلوبة، بل قيم وتجربة متراكمة تخطئ وتصحح مسيرها نحو مراد الناس في العيش"

لا يزال البعض يُقدِّم المطالب المرتبطة بالفقر على مطالب الحرية، الديمقراطية، المساواة والمشاركة، بل يتجاوز ذلك إلى عقد مقارنات على شاكلة التخلي عن الديمقراطية لأجل التنمية معلقا آماله على "دكتاتور مستنير" يقود السودان إلى طريق التنمية وفق رؤيته، يتطلع لكوريا الجنوبية هنا يقودها رجل واحد يضعها في مسار تنموي أو ربما لجمهورية صينية يديرها حزب بأيديولوجيا إقصائية تفرض على الجميع أجندتها التنموية، ثقافتها ومؤسساتها. متناسين حقيقة السياق هناك المفارق للواقع السوداني. 

يقول أمارتيا سن في حديثه عن التنمية كحرية، أنه لا يكفي أن ننظر للحرية كنتيجة للتنمية، بل يجب أن ننظر لها كاستحقاق ضروري لإحداث تنمية، إذ أن التنمية لديه هي تحرير للإنسان فالفقر قيد والجهل قيد، فتحرُر الإنسان من هذه القيود وغيرها هو التنمية، وتحرر الإنسان هذا مرتبط ابتداء بحريته فالحرية ضرورة للمعرفة، وضرورة ليكون الإنسان حرا في خيار كسبه وإنفاقه، وكذا هي ضرورة ليختار الناس ويقيّموا أولويات التنمية. التنمية بهذا المعنى تتجاوز كونها أرقام ومؤشرات تعبر عن الاقتصاد إلى كونها حالة يسعى لها الإنسان وهو موضوعها ومركزها، التنمية هنا موضوعها الإنسان وتحريره ليعيش وفق إرادته.

غياب التنمية وتدهور الاقتصاد في السودان لا يمكن أن ننظر إليه بمعزل عن سياق تاريخي متصل، مؤسسات ونخب تحكم وقرارات سابقة وحالية. فالضائقة الاقتصادية، التضخم، نقص السلع هو نتاج لقرارات اتخذها نظام حاكم له رؤية ونموذج يسعى له كما يدعي. عدم توَفُر الكهرباء في مناطق، أو أن طفل صغير يقطع بضع كيلومترات يوميًا ليعود بالماء في مناطق سودانية مختلفة هو نتاج لقرارات حكومية تجاه التنمية وأولوياتها عبر التاريخ السوداني. ضعف الإنتاج وقلة الصادر هي ظواهر تحدثنا عن أولويات الدولة في الصرف وتوجهاتها الاقتصادية في لحظات تاريخية سابقة.

 

لحرية، الديمقراطية، المساواة والمشاركة لكل فرد سوداني هي ما ستجعل هذا الفرد مساهماً في صنع القرار السياسي وتحديد أجندته التنموية. وستعزز شعور الفرد بملكية الدولة السودانية والانتماء لها

إن ما نعيشه اليوم هو نتاج تجارب سياسية سابقة وحالية، اتسمت في أغلبها بالبعد عن قيم الحرية، الديمقراطية، المساواة والمشاركة. ففي نظام ديمقراطي ستكون مصلحة النظام الحاكم متضمنة في تحقيق حياة أفضل لأولئك المحرومين من خدمات الكهرباء، لأن توفير احتياج هؤلاء ورفاههم هو ما سيضمن بقاء صانع القرار. كذا في ظل نظام يتساوى فيه الجميع، يعبرون عن أولوياتهم بحرية ويشاركون سيكون صوت هذا الطفل المنشغل عن دراسته بالبحث عن الماء مسموعا ومهمًّا في وضع الأجندة التنموية، سيكون صوته مركزيا وستظل مطالبه التنموية ذات أهمية.

منذ استقلال السودان وعبر تاريخه الحديث ظلت قيم الحرية، الديمقراطية، المساواة والمشاركة حاضرة في الخطاب السياسي، الدستور والمطالب الشعبية ولم تغب إلا بقيود مفروضة ومحروسة من حكومات العسكر. في ذات التاريخ الممتد أو يزيد برزت على السطح تحديات التمايز الثقافي والتعدد القبَلي. إذ أن حروب جنوب السودان الأهلية لم تكن لأجل فقر أو قصور في تنمية بقدر كونها حروب مدفوعة بإحساسٍ بالتمييز ضد أهل الجنوب السوداني، التمييز المتمظهر، بالنسبة لهم، في ضعف التنمية، غياب تمثيلهم في مؤسسات الدولة ومراكز صناعة القرار بالشكل الكافي وحتى تهميشهم في مكونات الدستور وأجهزة الإعلام، الفقر والجهل وغياب التنمية هي مظاهر للتمييز بالنسبة لهم.

 

حتى حركات دارفور المتمردة لا يمكن أن ننظر لمطالبها التنموية بمعزل عن رؤيتهم للتهميش، عدم عدالة توزيع الثروة والسلطة أو غياب تمثيلهم العادل. في دولة كهذه، تتعدد مكوناتها القبلية والثقافية بصورة معقدة، تتسطر على تاريخها حروب أهلية عدة، انفصال ودعاوي لغيْره بسبب التمييز، يجب أن تتجاوز قيم الديمقراطية، الحرية، المساواة والمشاركة كونها مطالب ضرورية لأجل التنمية إلى كونها مطالب لذاتها أولا باعتبار أنها مطلب شعبي على امتداد التاريخ السوداني، وإلى كونها مطلب ضروري لبقاء الدولة السودانية.

 

فتحديات التعدد يمكن تجاوزها بعدالة التمثيل السياسي وتعزيز مشاركة الفرد في الفعل والخيار السياسي. الحرية، الديمقراطية، المساواة والمشاركة لكل فرد سوداني هي ما ستجعل هذا الفرد مساهماً في صنع القرار السياسي وتحديد أجندته التنموية. هذه القيم ستعزز شعور الفرد بملكية الدولة السودانية والانتماء لها إذ أنه هو لا غيره من يحدد الحاكم وصانع القرار، يعبر عما يريد ومالا يريد وهو من يساهم في تحديد تمثيله وأولويات الفعل الحكومي تجاه التنمية.

لا أتحدث هنا عن تقديم قيم الحرية، الديمقراطية، المساواة والمشاركة على قضايا التنمية، لكن وجود هذه القيم سيسهم في تحديد أولويات التنمية، في التعبير عن احتياج الإنسان هنا وهناك، في إيصال صوته وفي جعل هذا الصوت وهذه المطلوبات ذات أهمية عند النخب السياسية، بهذا المعنى الحرية، الديمقراطية، المساواة والمشاركة ستسهم في التنمية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.