شعار قسم مدونات

هل تتعرض اللغة العربية لمؤامرة؟

blogs اللغة العربية

من المعلوم أن اللّسان العربي حامل تراث وناقل معرفة وشاهد حي على الجدور التي استلهم منها الغرب نهضته الحديثة، وهي اللغة القومية لحوالي 279 مليون نسمة، ويمثل إلى جانب ذلك مرجعية اعتبارية لأكثر من 250 مليون مسلم غير عربي، كلهم يتوقون إلى اكتساب اللغة العربية. ولمّا كانت العولمة تسعى إلى أمركة كل شيء فإنه كان طبيعيا أن يتواطأ الخطاب الثقافي معها، والذي يهدف إلى ترسيخ هوية جديدة تسعى عن طريقها للتعصب للأنجلوساكسونية والفرونكفونية، والعمل على تحويل المجتمعات المختلفة إلى أجساد تتحرك في العالم وعلى أعناقها جماجم أمريكية مستنسخة، تلغي انفرادية الإنسان وتميّزه الفكري.

هذا الأمر على مرارته أشبه بالمحنة التي اجتازها أهل الأندلس بعد سقوطها عام 1492م، حيث تم إجبارهم على كتابة العربية بحروف إسبانية، في محاولة دنيئة من الإسبان للقضاء على كل ما هو مرتبط بلغة القرآن الكريم. وهذا ما يجب إسقاطه حاليا في المحيط الاجتماعي العربي، والكارثة أن هذه الأطماع الخارجية لا تحقق مبتغاها في الهيمنة إلا بمساعدة داخلية، حيث تكالب العرب على تعليم أولادهم اللغات الأجنبية مؤكدين لهم أن المستقبل والعلم والتكنولوجيا في تعلم لغة الكمبيوتر والأنترنت، والذي لا يجيد اللغة الإنجليزية يعتبر جاهلا ولن يكون له أي مستقبل داخل أي مجتمع.

رحم الله شاعر النيل حين قال متحدثا بلسان العربية:

أيهجرني قومي -عفا اللّه عنهمُ
إلى لغة لم تتّصل برواةِ
سرت لَوْثَةَ الإفرنجِ فِيه كما سرى لعاب الأفاعي
في مسيلِ فراتِ

اللغة العربية تعرضت ولا زالت تتعرض لمخططات دخيلة من أجل تهميشها والقضاء عليها، وهذا ما دفع منظمة (الإسيسكو) إلى التعبير عن قلقها قائلة "إن البلاد العربية تعاني من أزمة في الهوية"

ومن المفارقات أن محتوى الأنترنت باللغة العربية الفصحى قليل جدا مقارنة بالعدد الهائل لمستخدمي الأنترنت من العرب، مرورا بالاستعمال المفرط للغة الأجنبية لدى المثقفين والمسؤولين الحكوميين وانتهاءا بما يزرعه التعليم الأجنبي في أذهان المتعلمين العرب الذين يرتادون المدارس الأجنبية. كما وصل الأمر في التخاطب بين بعضنا والانبهار بلغة الغرب إلى كتابة بطاقات الدعوات الاجتماعية باللغة الإنجليزية. والأمر الذي زاد الطين بلة هو مزاحمة العامية لها في البيوت والشوارع، لدرجة أن معظم البرامج الفضائية تقدم اليوم باللهجات المحلية.

ووصل الأمر إلى استخدام اللهجة العامية في دبلجة المسلسلات المستوردة كالمسلسلات التركية المدبلجة باللهجة السورية أو اللبنانية. وحتى اللهجة المحلية فيها من الأجنبية أكثر مما فيها من العربية وباتت غير معروفة لجزء كبير من السكان، كما أن هناك توجها عاما نحو التغريب واستعمال اللغات الأجنبية ولاسيما في المحال والمطاعم والفنادق الفخمة التي تدعي الرقي والرفعة. ومن ثم إهمال اللغة العربية والنظر إليها على أنها مظهر من مظاهر تخلفنا الحضاري الذي لابد من التخلي عنه، دون إدراك أو دراية بخطورة ما يفعلونه من طمس للهوية الثقافية العربية، بتكالبهم على تعلم اللغات الأجنبية، وارتداء الماركات العالمية وأكل الهامبورجر وشرب الكوكا كولا، والإصغاء لموسيقى الراب.

إن اللغة العربية تعرضت ولا زالت تتعرض لمخططات دخيلة من أجل تهميشها والقضاء عليها، وهذا ما دفع منظمة (الإسيسكو) إلى التعبير عن قلقها قائلة "إن البلاد العربية تعاني من أزمة في الهوية، نتيجة للمتغيرات التي طرأت في التركيبة السياسية، والاقتصادية والاجتماعية، والثقافية العربية". لدى علينا أن نقف وقفة جدية، نعيد فيها حساباتنا ونؤكد هويتنا، وهنا يبرز دور المثقفين من العلماء المسلمين، للتأثير على الحكومات وعلى المسؤولين عن التربية والتعليم في الدول العربية الإسلامية، لرفع شأن اللغة العربية بتحديث طرائق تعليمها وتقديم أساليب مبتكرة تسهل استخدامها في مواقع التواصل الاجتماعي.

كما لابد من تنمية الوعي القومي والانتماء العربي الاسلامي في نفوس أولادنا وإقناعهم أن هناك فرقا شاسعا بين تعلم لغات وعلوم حضارة أمة من الأمم، واعتناق هذه الحضارة. ولنأخذ مثال الدول الشرق آسيوية الصين واليابان.. التي أجادت اللغة الإنجليزية دون الانتماء والذوبان في الثقافة الأمريكية. واشتراط إتقان اللغة العربية للعمالة الوافدة إلى البلدان العربية. وافتتاح مراكز ثقافية في السفارات العربية تقدم دورات تعليمية باللغة العربية للخبراء والمتخصصين الراغبين في العمل في الوطن العربي مدفوعة الأجر. واشتراط ترجمة كل ما يكتب على البضائع المستوردة إلى اللغة العربية، وعد هذا المطلب شرطا للتعامل التجاري مع الشركات والدول المصدرة. ومكافحة القنوات الإعلامية التي تعتمد العامية لغة في التخاطب.

انحصار مد اللغة العربية هو الثمرة المرة لانحراف أهلها نحو مآزق تبعدهم عن مصادر القوة الحقيقة، التي تنبع من الروح والفكر وقوة الإرادة في تحصين الذات وفي حماية الكيان من عناصر أجنبية
انحصار مد اللغة العربية هو الثمرة المرة لانحراف أهلها نحو مآزق تبعدهم عن مصادر القوة الحقيقة، التي تنبع من الروح والفكر وقوة الإرادة في تحصين الذات وفي حماية الكيان من عناصر أجنبية
 

ونحن بهذه الإجراءات لسنا ضد اللغة الأجنبية كلغة.. فالإسلام لا ينص على ذلك أبدا، ويرفض العنصرية أو التحيز لجنس على آخر أو تفضيل لون على لون، فقد جاء ذكر الاختلاف في النص القرآني للدلالة على قدرة الله في الخلق "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ" (الآية 22 الروم). وجاء الحديث الشريف ليقر أن معيار التفضيل عند اللّه هو التّقوى: "كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم" (حديث صحيح).

ولسنا ضد تعلم لغة أو لغات أجنبية، بل رؤيتها أنها ضرورية في هذا العصر، تشجع على تسلح الأبناء بها، لكن ليس على حساب لغتنا العربية. كيف يفهمون القرآن والحديث ولغتهم ضعيفة ركيكة؟ الذي ننكره ونحاربه هو تهميش اللغة الأصلية، وجعل اللغات الأخرى هي الأساس، ننكر مزاحمة اللغات الأجنبية للغة القرآن ولغة الإسلام.

إن انحصار مد اللغة العربية هو الثمرة المرة لانحراف أهلها نحو مآزق تبعدهم عن مصادر القوة الحقيقة، التي تنبع من الروح والفكر وقوة الإرادة في تحصين الذات وفي حماية الكيان من عناصر أجنبية. تعمل على فرض لغتها وثقافتها ونظم حياتها على الشعوب غير القادرة على حماية خصوصياتها، فهل ندرك مصدر عزّتنا قبل فوات الآوان؟

لغة إذا وقعت على اسماعنا
كانت لنا بردا على الأكباد
ستظل رابطة تؤلف بيننا 
فهي الرجاء لناطق بالضاد

– الشاعر حليم دموس

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.