شعار قسم مدونات

ما تنجبه الحرب

blogs - war

نعم هي الحرب خمسة أحرف على الورق، تُدحض كُل قوانين الإنسانية ، قتل وتشريد ما بين فجر وغسق وشرق وغرب، نقمة القرن الواحد والعشرين هنا ليس التلوث فقط والإشعاعات والسرطانات وأمراض السُكري والقلب، ولا اتساع ثُقب الأوزون والاحتباس الحَراري، ولا التوسع في المد السكاني واجتياح الإنسان للغاب وطغيان التعداد البشري على أحراش وغابات كارثيةَ العدد، وإنما هُناك تلوث للإنسانية من بوابة أخرى، بوابة "الحرب والثورات" تَسطو منها الحرب بشكل مُقَسَّم في مكان محدد فلا تتحرك وتبقى راسخة مثل فايروس تنهش وتَفتك في رئة ببلد. تعدم بكل ما أوتِيَت من لُغات القتل مظاهر الإنسان ومشاتل الورد ببطء وبصبر وجَلَد.

  

في بادئة الأمر يتصدر المشهد استنزاف للثَروة البشرية بكافة الأعمار والأوصاف والأصناف، وفي النهاية مصير واحد للكَثرة أو للقلة أو لكل شيء يسري عليه العدد، مصير واستراتيجية مشوهة ومبهمة غير واضحة المعالم، تبعث في قلوب اللاجئين، أي من هم بفوهة الاغتراب قابعين، شريان ينبض قلقا وارتيابا و خوفا، ربما هو قلق الابتعاد عن الوطن الأم والعيش في المنفى في أمصار بلاد تعج سواحله باللجوء والحرية ومظاهر الإنسانية. استراتيجية تنجب هواجس مختلفة تُناط للنفس تلقائيا بعد التهجير القَصري والجبري عَقب الحرب الناشبة، حرب اقتَلعَت جذور الهوية الأصلية والأمن والأمان والسلام من أكناف أوطان تتوسم وتتوشح الآن بنار الحرب والضرب، والناتج المتعدد من الحرب عقبات ومخاوف منها هاجس التعليم والتكلفة المالية والقبول الدراسي للحصول على الشهادات العليا، والابتدائية على أرض تختلف كليا عن الأرض الأم بجميع النواحي الاجتماعية والنفسية والاقتصادية والعرقية والدينية والتعليمية.
  

ثانيا، هاجس اللّغة ومواجهة صعوبة قصوى للأفراد الأميين في تعلم لغات غربية، بالإضافة إلى التأقلم مع عادات شعوب إفرنجية تختلف كليا عن الشعوب العربية، ناهيك عن الجانب الآخر للحُروب، جانب يتلخص ويتخصص بكامل سطوته الشرسة غير الإنسانية بقتل الأطفال الأبرياء والمدنين العزل بلا ذنب يذكر ولا بسبب يُكتَب، أيضا مسح مظاهر الإنسانية من وجه الذين فقدوا أبنائهم بعاصفة من القذائف والقصف الجوي والإجتياح البري بكافة الأشكال والأوزار الحربية القمعية، تحت سقف كان هو الشاهد الوحيد على بيت تساوت جدرانه وأحواض النعنع فيه مع الأرض وأصبح هشيما من الحجارة والرماد والأنقاض.

  

نحن نستحق الوطن والوطن يستحقنا، هو مرآتنا التي تعكس جانبنا المدموغ فينا الذي لا نراه، وهويتنا التي تتلعثم لهجة حرة في ألسنتنا وفي دمنا، حتى الألم في أوطاننا هو ألمُنا
نحن نستحق الوطن والوطن يستحقنا، هو مرآتنا التي تعكس جانبنا المدموغ فينا الذي لا نراه، وهويتنا التي تتلعثم لهجة حرة في ألسنتنا وفي دمنا، حتى الألم في أوطاننا هو ألمُنا
   

فقدان لكل شيء إذاً، الروح الأغلى فطريا، الأبناء الأبرياء والبنات وربما العائلة بِرُمتِها، الوطن والانتماء والمواطنة والحرية، الهوية الأولى، البيوت والشركات والمصالح والأملاك، المدارس وقطاع الإصلاح والجمعيات، المساجد الكنائس ودور العبادات، التعليم، والمدن الأثرية والتراثيات، وربما التاريخ العميق والعقيم ستناله شظايا الحرب أيضا ستُحرَق بيد الحرب كُتب وفهارس ومجلدات المكتبات، وتُمَزق المعالم والرموز التاريخية والأثرية على الأوراق، طمسٌ للتاريخ بشتى أشكالِه أو لحقبة معينة من ماض تعاقبت فيه الحقب والأمم والحضارات، لن يبقى أي شيء سوى ولادة الحلم لاحقا من شق في تصدعات الحنين لعودة الأدراج والعتبات، للوطن الأم، والسير المعتاد بسردية وهمية على نمط الحياة.

  

ما يجب علينا معرفته بشدة أن ما تصقله الحرب بدقة عالية واحترافية خبيثة، تلك البؤرة من الاستنزاف لكل شيء ثابت ونابض ومتحرك وجماد، السراب والتشويش للذات، إستراتيجية عمياء وتضاريس وجغرافيا جديدة ربما يدفع ثمن تلك الحدود ثنائي متساوٍ من البشر الأموات والأحياء، فالأموات فقدوا الحياة والأحياء أيضا أفقدتهم الحرب مظاهر الحياة على قيد الحياة، سنقول عابرين هناك إن للأوطان المحتلة شمعة تنصهر لتنير مستقبلا أصبحت هوامش طريقه أشلاء ودما وإصابات ورفاتا، لا شيء يا عزيزي يضاهي وطنا جميلا تسكنه ويسكنك، تشرق فيه الشمس وتنكشف فيه روحانية وطهر السماء البيضاء بلا قنابل ضوئية ولا قصف ولا طائرات، لا شيء يضمك بأضلع من هواء سوى وطن يحتضن ألمك كيفما تشاء، بين المقاهي ربما وبين الهضاب والجبال والعيون المتفجرة من الماء، بين النرجس والليلك المخملي ودور الرعاية للمحتاجين وجمعيات الإيواء.

 

فنحن نستحق الوطن والوطن يستحقنا، هو مرآتنا التي تعكس جانبنا المدموغ فينا الذي لا نراه، وهويتنا التي تتلعثم لهجة حرة في ألسنتنا وفي دمنا، حتى الألم في أوطاننا هو المُنى، كل شيء لنا نحن نستحق أوطاننا، شهداءنا، أشلاءنا، كل شيء سيشرق في يوم مع فجرنا الطالع "بعد جليد متيبس في حروبنا" نحن نستحق الوطن مثلما استحق الجنين أن يولد خفيف الشعر في الخريف الرافض لكل أشكال الربيع، ويُحسب له عُمره من الثانية الأولى، تسعة شهور لرحم الأم وأرض الوطن الحاضن للأم والجنين، إذاً الجنين ابن الأم في الدم وابن الوطن في الأرض.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.