شعار قسم مدونات

ارتباك العقل العربي

Blogs- arab man
إن حالة الارتباك التي يعيشها العقل العربي قد جاوزت ذلك، وفق قول الكثيرين، الى الغياب، ولكل طرف دلالاته ومسوغاته التي تقود إلى هذه الأحكام، وحالة الأمل -التي لا أدري من أين تأتي- جعلتني أضع عنوان الارتباك للحفاظ على ما تبقى من شعاع. ولتوضيح فكرة الارتباك لا بد من إلقاء الضوء على بعض المفاهيم الأساسية المرتبطة بالموضوع، فأنا لست ممن يؤمنون بفكرة الغياب أو السبات بشكل ذاتي أو نتيجة مؤامرات خارجية.
 
ليس من السهل تجاوز بعضٍ من أفكار المثقفين العرب، الذين أرى أنهم أبدعوا في قراءة العقل العربي ربما بدافع ذاتي في البحث عن الهوية، أمثال الجابري والطرابيشي وعلاء الدين الاعرجي وغيرهم؛ فالموضوعية في العالم العربي أكبر دليل على فكرة التبعية الفكرية والثقافية للغرب. وكغالبية الشباب العرب الذين أخذوا يبحثون عن اليقين العلمي أو الفكري والثقافي هربا من الفوضى تاقائمة، تأثرت كثيرا من مجموع هذه الأطروحات والكتابات، ما أوجب الكتابة في مفهوم الإنسان الفاعل والإنسان المنفعل أو المنتمي واللامنتمي والمكوِّن والمكوَّن، أو العقل السائد (العقل الجمعي).
 
ومن المقولات التي يمكن أن تظهر للقارئ في هذا المضمار أن هنالك في واقعنا ما يكشف عن وجودها، بمعنى آخر، إن هذه المفاهيم تستحضر نفسها على النشاط الفكري. وفي رأيي فإن فكرة الإنسان أو العقل الفاعل والمنتمي والمكوَّن كلها تشير إلى فكرة أن هذه العقلية لم تخرج من دائرة الثقافة العربية؛ وهذه الثقافة أو الوعي الذي يرافق هذه العقلية يستمد نشاطه الفكري من خلال اللاشعور المعرفي. هذه المعرفة الناتجة عن ثقافة الإنسان العربي، والتي هي مجموع التصورات الذهنية والمفاهيم التي تحدد نظرة الإنسان العربي إلى الكون والتاريخ والمجتمع والذات، ويشار إليها أنها الصنف الذي يفكر بالعقل وليس في العقل، وهو الصنف الذي يؤدي إلى تشكل العقل الجمعي (السائد) ما يشكل ثقافة الدولة أو المواطنة؛ هذه العقلية لطالما كانت دائما تعيد مراحل التاريخ وكأنها، في حلقة مغلقة (اللاشعور المعرفي) هذه العقلية التي ما زالت سجينة مرحلة بداية الثقافة العربية، وهي مرحلة تفسير القرآن الكريم وتدوين الأحاديث وتوطيد علوم الكلام واللغة.
  
لا يجب أن نندب واقعنا بسبب خروج بعض الجماعات المتطرفة في هذه المرحلة من التاريخ التي تعدّ مثالية لخروجها، لأننا نحن من هيأنا الفرصة لخروجها
لا يجب أن نندب واقعنا بسبب خروج بعض الجماعات المتطرفة في هذه المرحلة من التاريخ التي تعدّ مثالية لخروجها، لأننا نحن من هيأنا الفرصة لخروجها
   
طبعا، أنا هنا لست بصدد عمل خارطة ذهنية لكل مما جادت به عقول الباحثين في هذا المضمار، ولست متأكدا مما إذا كان عرضي السابق يعطي لمحة بسيطة عن هذه الأفكار؛ فأنا في النهاية أتخذ منها مصدرا لتعليل بعض الأفكار. وفي المقابل، هنالك العقل الفاعل أو العقل اللامنتمي أو المكوِّن؛ وكل هذه الإشارات تدل على تلك العقلية التي تتجاوز الإطار المرجعي للثقافة العربية. وجوهر الاختلاف بينها وبين العقلية السابقة هو أنها تفكر في العقل، أي أنها تُخضع فكرة الثقافة والمرجعيات والمفاهيم إلى معايير أكثر تطورا لأجل الاستمرارية والحفاظ على الوجود والهوية للثقافة العربية الحضارية.
  
إن العقل الفاعل أو اللامنتمي هو "الإشارة إلى العقلية الثائرة على العقل الجمعي أو العقل السائد"؛ وهذه الصفات التي يمكن القول إنها العقل (المكوِّن) هي التي تؤدي إلى تطور الهوية أو الثقافة والواقع العربي بما يناسب زمانه؛ فهي التي تقوم بإعادة تطوير المفاهيم والتصورات والرؤى لصياغة وبلورة واقع اجتماعي متجدد متزامن مع الثقافات الأخرى وقادر على الحفاظ على وجوده. ولكنْ، مع الأسف، سأسمح لنفسي، كشاب من شباب ما بعد الربيع العربي، بتجاوز فكرة الموضوعية أو البيروقراطية الفكرية للتهكم بهذا المضمار ضمن حدود الاحترام، إن بقي هناك شيء من كرامة للعقل العربي.
 
أرى أن غالبية الكتابات التي تبحث في هذا المجال تتخذ من المقارنة مع الغرب سبيلا لكشف الحقائق أو المقاربات، أو بصورة أخرى، أن المعايير التي يتم اتخاذها كبرهان علمي لتأكيد بعضٍ من النتائج تأتي في سياق عملية المقارنة مع الثقافة أو العقل الغربي. ولكنْ في واقعنا اليوم ما بعد الربيع العربي وتساؤلات ما بعد فشل الربيع العربي وثبات قوى الاستبداد، تتشكل دوافع ثقافية لها خصوصية أو يجب أن تكون كذلك. وبالعودة إلى فكرة الإنسان الفاعل والمنفعل، سأتخذ من فكرة الإنسان المنتمي واللامنتمي سبيلا لتبرير فكرة الارتباك في العقل العربي.
  
اليوم نرى من يضحي بشعوب ودول قائمة على حساب عدم السماح للثقافة التي يؤكدها التاريخ ويؤمن بها كل ذو عقلية توصف بأنها غير منتمية

إن فكرة الانسان المنتمي هي تلك الصفة التي تأتي من خلال عدة معايير تم تحديدها وفق صياغة قانونية من خلال الدولة؛ وهذه الصيغة القانونية تستقي حقيقتها أو أفكارها من خلال الثقافة أو العقل (السائد) الجمعي. وفي بعض حالات الاستبداد اللامنطقية يمكن إعادة هذه الثقافة إلى ثقافة الحاكم ذاته، التي يمكن أن تصل ذروتها ليكون أقصى اتساع لها هو تاريخ الأسرة الحاكمة القائم على العصبية القبلية أو تحالفات ومصالح شخصية، فضلا عن أنني لا أنكر وجود نقيض ذلك في عالمنا! وهنا يمكن الفصل والتمييز بين الإنسان إو العقل المنتمي والعقل غير المنتمي، ويمكن إدراج الكثير من الأحكام التي ربما تصل إلى تهم وجرائم، بالتأكيد أقصد هنا التهم الموجهة للعقل اللامنتمي أو الفاعل والمكوِّن.

 
فالخروج عن القانون بأبسط صورة هو الخروج عن العقل السائد والثقافة السائدة، وإلا فما هو سبب غياب النخبة المثقفة والمتحررة أو النخب الإسلامية وتغييب دورها، فضلا عن هجرة الكفاءات والكثير من العلل في مجتمعاتنا؛ وربما هذا ما يفسر أغنية "إحنا شعب وإنتو شعب". إن ارتباك الحركة الاجتماعية في عالمنا العربي تعود إلى وجود ثقافتين متغايرتين في البنى والرؤى والكيفية، مع عدم الاعتراف بوجودها، وهنا أؤكد ما ذهب إليه الجابري أنه لا يمكن الانتقال من مرحلة إلى أخرى أكثر إبداعا وتطورا من دون نقد العل العربي.
 
كما يمكن تفسير بعض الأحداث التي نراها غير منطقية، فضلا عن أنه لا يوجد ما يبرر القول إنها غير منطقية، فمثلا لو أخذنا قضية القدس لوجدنا أنها تكشف هذه الأزمة الثقافية؛ فالبعض يراها أولوية كبرى، وقد تنازل عن الكثير من الامتيازات الغربية، لأنها تمثل الثقافة العربية الحضارية؛ بعكس بعض الأنظمة التي تجسّد في ثقافتها الوطنية (العقل السائد والمكوًن) ثقافة العقل العربي الخالص، هذا العقل الذي يُفترض أنه انتهى دوره مع اكتمال رسالة الإسلام.. غير أننا نعي تماما أن عملية الاستشراق في مرحلة الاستعمار وما قبله قد استطاعت إعادة صياغة العقل العربي الخالص، الذي يتخذ من الإسلام ستارا ليتمكن من فرض الحكم الاستبدادي (بديل الاستعمار) على الدول العربية.
 
"يا أمتي ارتبكي قليلا، إنه أمر طبيعي.. وقومي، إنه أمر طبيعي كذلك" -تميم البرغوثي
 
وهذا ما يمكّننا من تفسير بعض الظواهر في الساحة العربية، كظهور النزعات الطائفية والعصبية القبلية والعرقية (فكما قلنا فإن هذه العقلية سجينة حلقة مغلقة تفكر بالعقل -فإعادة ظهرو أحداث تاريخية أو إبرازها أمر حتمي). كما أن ظهور جماعات أصولية يعد أمرا طبيعيا أيضا لأن هذه الجماعات بدورها سجينة مرحة نشأتها؛ فمرحلة النشأة لهذه العقلية تعني "زمن التحقق". وفي حالة الارتباك هذه لا يجب أن نندب واقعنا في حال خروج بعض الجماعات المتطرفة في هذه المرحلة من التاريخ التي تعدّ خصبة لخروج مثل هذه الأفكار ولعبث الآخرين بنا.
 
إن عامل الزمن أمر مهم، ففي حين يقر البعض بأن العقلية ("لمكوِّنة" أو العقل الفاعل في الثقافة العربية الحضارية الإسلامية قد تأخر كثيرا في نقد العقلية العربية وضبط أصولها ورؤاها أصابها الكثير من الإعياء والعزلة، فحالة الغربة أو التغريب القسري الذي يطال النخب العربية والأحزاب المنفتحة يعد أمرا طبيعا؛ فكلما تمكنت الثقافة السائدة أو المكوَّنة ازدادت شراسة وصلابة الثقافة المضادة للحضارة ونصّبت نفسها على أنها هي الثقافة التي تمثل المجتمعات العربية؛ وهذا ما يفسر ضعف الإنتاج المعرفي والإلمام الثقافي ومحدودية المعرفة بمجال التارريخ الحقيقي لمسيرة الحضارة العربية الاسلامية، وهو ما يفسر حالة التخلف عموما.
 
كما أن حالة التضييق والخروج من دائرة الثقافة السائدة، والتي بات يتم تشكيلها وتكوينها بواسطة مؤسسات تربوية وتعليمة وإعلامية للدول أمرا صعبا، فنحن اليوم نرى من يضحي بشعوب ودول قائمة على حساب عدم السماح للثقافة التي يؤكدها التاريخ ويؤمن بها كل ذي عقلية توصف بأنها غير منتمية (الانتماء حسب التفسير القانوني) وفاعلة ومكوِّنة لأنه إذا ما أتيح المجال لهذه الثقافة بالفعل فإنها ستكون نقيضا لما هو عليه واقع الحال.
  
"أَرَى أُمَّةً في الغَارِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ تَعُودُ إليهِ حِينَ يَفْدَحُهَا الأَمْرُ"، ويقول الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي في قصيدته "أمر طبيعي": "يا أمتي ارتبكي قليلا، إنه أمر طبيعي، وقومي، إنه أمر طبيعي كذلك".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.