شعار قسم مدونات

عن وطني أتحدث

Blogs-EgypT

ذلك الوطن المقطوع الصلة بين الحق واليقين، المتأنق بالاستبداد المؤسسي الفخيم، الموغل في التردي والجمود، الغارق في بحر الدماء منتشياً بالانتصار، المتجرد من القيم الإنسانية الرفيعة، المتحالف مع الشيطان كي يهدم أركان الانسان، عن وطني أتحدث، ذلك البركان الهائل الذي أغرق الجميع بالكلية جراء حماقة المجرمين الأوائل، الذين اغتالوا الحلم في عباءة الإمام عمر مكرم مؤسس أول ثورة مصرية وتدثروا هم بعباءة الأزهر، بعدما صك وثيقة السيادة للشعب ازاء الوالي الجديد، فصكوا هم فتواهم بالعبودية المطلقة.

  

الذين عبدوا الطريق في قلوب الناس إلى الخنوع لأمر الوالي، فأقعدوهم في العبودية حتى تجردوا تماماً مما يبقيهم على قيد الانسانية فيقولوا لا لقتل كل شيء كي يبقى الوالي، الخديوي، الملك، الرئيس، الذين خانوا عرابي ليُهزم ويتحول لمسالم كي يعود لوطنه، الذين ظلوا يراوغون مصطفى كامل حتى مات كمداً من سفالتهم الوطنية المخمورة بكأس المحتل، الذين وشوا بالأديب عبدالله النديم مقابل جنيهات قليلة، ولم يدركوا قدره، فجاز عليهم الاحتلال لما يزيد عن سبعين عاما، الذين التفوا حول المقامر الشاب يدفعونه دفعاً للزعامة والسطوة المطلقة حتى وجد الكيان الصهيوني متربعاً فوق سيناء، ويحلق فوق سماء القاهرة باصقاً على تلك الزعامة المزعومة، التي كان ثمنها أغلى ثمن ممكن أن يدفعه وطن.

  

لقد مات كل شيء هنا ولم يبق سوى بقايا من شرف وضمير وحس في الوجدان، فلا شيء هنا سوى الوالي، الخديوي، الملك، الرئيس. وحتماً سنعود يوماً عندما يرحل كل شيء لا يعرف معنى الأوطان

أولئك هم المجرمون الأوائل الذين تركوا نسلهم ينهش مثلهم في لحم الوطن دون رادع من حكيم أو ثائر عظيم، حتى آلت لهم تركة وطن يبيعونه الآن في رابعة النهار، الذين فرضوا الأمر فوق المنطق، والظن فوق الحجه والبرهان، ذلك الوطن المهان، قد طويت صفحته وحلقت بعيداً عنه، ورحلت بروحي مع الراحلين، حيث عالم بلا قيود أو أحزان، عالم لا يفرض قوانينه الباليه وطقوسه المهينة في الامتثال للسيد الوالي، الخديوي، الملك، الرئيس، فهجرتنا لن تكون هرباً من شيء بقدر ما هي شرفاً أن نحتفظ بأنفسنا كما هي شفافة بريئة عبر عشرات القرون من القهر والهوان.

   

لا نعرف القنص للفرص والنفاق والتملق لذوي النفوذ والسلطان، فلو أردنا لنجحنا ومات الإنسان، فأراد الله أن نستعصي على كل ذلك، بل على طموحاتنا، ولو لم يبق سوى قطعة خبز لسد الرمق، لكن انسداد الأفق في بادرة شعاع ينفذ في أرواحنا المنهكة في ذلك الظرف الراهن شديد الوطئة على كل وطني حر، يدفعنا الى الرحيل، فهجرتنا من هول ما شاهدناه من عصف بكل ما هو جميل في هذا البلد الموغل في التوحش والجاهلية الغير مسبوقة إلى حد القتل بالمجان، والإقصاء لكل ذي فهم وبصيرة ورؤية لأبعاد ما يحدث وانعكاساته الكارثية.

     

 هجرتنا ليست لمجرد الهجرة إنما لأمل أن نلقى أمثالنا بعدما عز علينا لقاؤهم وقد دُفنوا أحياءً، ريثما انزووا داخل جدران الوطن بلا سند أو أمل في غد يحنو عليهم، ذلك الوطن الذي يسكنني رغماً عني ولا أطيق فراقه، ولم أقو على البقاء به في الحال ذاته، فإما نحن أو أي شيء آخر غير الإنسان.

 

 ليس في مقدوري أن أقتل ذلك الإنسان الذي فطره الله عز وجل على الحق والخير والجمال، ويرفض أن ينحي غيره جانبا كي يتقدم ويحصد المال المهان، ليس في مقدوري الوشاية الرخيصة كي أبقى صديقاً للسجان، لقد مات كل شيء هنا ولم يبق سوى بقايا من شرف وضمير وحس في الوجدان، فالرحيل حيث كل شيء من جديد، فلا شيء هنا سوى الوالي، الخديوي، الملك، الرئيس. وحتماً سنعود يوماً عندما يرحل كل شيء لا يعرف معنى الأوطان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.