شعار قسم مدونات

ماذا أغني لأطفالي؟!

blogs - كتاب موسيقى
لم يكن عمري يتجاوز السنوات الثلاث حين كنت أغفو على صوت أمي وهي تغني لي "زهرة المدائن"، وأنام مباشرة بعد قولها: "الطفل في المغارة وأمه مريم وجهان يبكيان"، ولم أعرف يومها لِمَ يبكيان. وبعد عام، كانت أمي تغني مع خالتي وهما تُعِدّان كعك العيد: "أحِنّ إلى خبز أمي وقهوة أمي وأعشق عمري لأني إذا مِتُّ أخجل من دمع أمي"، وتبكيان، ولَم أَدْرِ حينها لِم تبكيان! ويوم العيد اصطحبتني أمي إلى حفل موسيقي لفرقة العاشقين وافتتحوا الحفل بـ"يازريف الطول وقّف لاقولك رايح عالغربة وبلادك أحسنلك"، وكنت أسأل أمي: ماهي الغربة؟ فتَلْعَنُها وتقول: ما نحن فيه الآن، وتبكي، ولَم أعرف كذلك لِم تبكي. وكان العاشقين يُكْمِلون الحفل وسط جمهور أعرف وجوهه الحزينة كلها، يرددون مع الفريق: "يا يُمّا في دَقّة ع بابنا، هاي دقة احبابنا، هاي دقة قوية، دقة فدائية" ولم أكن أعلم ما معنى "فدائية" ولماذا يدقون الباب.
ويكمل العاشقون والجمهور يزغرد معهم على أنغام "زغردي يا أم الجدايل زغردي، وزيّني فخر الأصايل بالودَع، وازرعي الحنة على الصدر النّدي، واربطي العصبة على كل الوجع"، يصمتون ثم يبدؤون من جديد: "من سجن عكا طلعت جنازة، محمد جمجوم وفؤاد حجازي، جازي عليهم يا شعبي جازي، المندوب السامي وربعُه عموما"، ويبكون -يوم العيد- ولم أفهم لماذا يبكون.

في غربتي التي صِرْتُ أعرف معناها غنّينا للعراق، لبيروت، للجنوب اللبناني، لفلسطين، غنينا للحزن والأمل، الألم والفرح كلهم معاً، حتى لسراييفو غنينا

وفي الخامسة من عمري دخلتُ المدرسة، وكانت أمي تذاكر لي دروسي وتدندن: "كتبنا تواريخ، حفظنا تواريخ، إجا التاريخ ضرَبْنا كَفّ". هكذا كانت تمر السنون.. بين ترنيمة أمي قبل النوم: "وقّفوني ع الحدود قال بَدُّنْ هويتي"، وغنائها باكية بعد رسالة وصلتها من جدتي تُخبرُها أن ابن الجيران استشهد: "رجع الخيّ يا عين لا تدمعيله، فوق اكتاف رفاقه ومحبّينه"، وترديدها مع خالتي وهما تُعدّان طعاماً رحمة عن روحه: "طلّت البارودة والسّبِع ما طلّ، يا بوز البارودة من دَمُّه مِبْتَلّ"، وبين صوت السيّاب في شريط الكاسيت وهو يُلقِي أنشودته:
مطرٌ مطر..

أتعلمين أيَ حزن يبعث المطرْ
وكيف يشعر الوحيد فيه بالضّياعْ
مطرٌ مطر
وفي العراقِ جوع
في كل عام حين يُعْشِبُ الثّرى نجوع
ما مرّ عامٌ والعراق ليس فيه جوع

وصوت جوليا الصّادح في أرجاء المنزل: "بنرفض نِحنا نموت، قولولُنْ راح نبقى، أرضك والبيوت، والشعب ال عَم يشقى، هاوٌإلا يا جْنُوبْ، ياحبيبي يا جنوب". ثم صار لي إخوة صغار تغني لهم أمي أغانٍ أخرى، وكنت أسمعها وهي تترنم: "اشهد يا عالم علينا وع بيرت، اشهد ع الحرب الأهلية، واللي ما شاف في الغربال يا بيروت، أعمى بعيون أمريكية". وكبرْتُ، وكبرَتْ في عقلي أسئلة كثيرة: ما علاقة الطفل الذي في المغارة وأمه مريم بالقدس؟ ولماذا يَلعنون الغربة؟ وكيف تكون أغنية "زغردي يا أم الجدايل" حزينة اللحن جداً هكذا رغم الزغاريد والجدائل؟ ولماذا تخرج الجنازة في عكّا من السجن؟ ومن هو المندوب السامي؟ وكيف يضرب التاريخ أحداً "كَفّ"؟ وماذا يعني أن يرجع الخَيّ أو تُطِلّ بارودة السّبع دون أن يُطِلّ؟ ولم هو العراق جائعٌ مع كلِ موسمِ مطر؟ ومن هو "جْنوب" حبيب جوليا؟ ولماذا نغني لبيروت وللأعمى الذي لم أفهم لِمَ عيونه أمريكية؟

كانت الترانيم لغة سائدة، يتبادلها الجميع، ويتفاعلون معها، يُعلّمونها أجيالهم فيرددها الصغار مع الكبار، ليكبروا على الحقيقة والإحساس المرهف العميق
كانت الترانيم لغة سائدة، يتبادلها الجميع، ويتفاعلون معها، يُعلّمونها أجيالهم فيرددها الصغار مع الكبار، ليكبروا على الحقيقة والإحساس المرهف العميق

عاماً بعد عام، كنت أجد بعض الإجابات، وأعجز عن بعضها، لكنني كنت أتلقى كل الأغاني والأهازيج المتلاحقة في تلك الأعوام بذات الفهم العميق المستفسر عن كل شيء. لقد كانت حينها الحياة بأحداثها المعقدة، وتاريخها المؤسف، وذكرياتها المؤلمة، كلها مدونة في عقولنا وقلوبنا على هيئة أغانٍ وأهازيج، وكانت لغة مشتركة يفهمها الجميع، تُترجِم ما في قُلوبهم وتصل بسهولة إلى غيرهم، فيتضامنون معاً ويغنون معاً كلٌّ لِحُزْن الآخر.

اليوم لا أدري ماذا سأغني لأطفالي وقد صُدِمْتُ بالجواب بعد ثلاثة عقود.. أنّه لم يتطور إحساسُنا الفني مثلما تطورت كوارثنا، بل تدهور ذاك بقدر ما تعاظمت هذه

في غربتي -التي صِرْتُ أعرف معناها لاحقاً- في إحدى دول المغرب العربي، غنّينا للعراق، لبيروت، للجنوب اللبناني، لفلسطين، غنينا للحزن والأمل، الألم والفرح كلهم معاً، حتى لسراييفو -مع لطفي بوشناق- غنينا:
لا شيء هذا الخريف
سوى الحرب تدوي بصمت مخيف
وتسرق منك الخطى والرغيف

وكانت مشاهد انتفاضة ٨٧ مسجّلة في أدمغتنا بشكل تلقائي بصوت "وين الملايين" و"يا حمام القدس نَوّح".

هذا هو الفن الذي كبرنا عليه، فتشربنا منه العمق والحب، تماماً كالحزن والأسى، وتضاعفَتْ معه أعمارنا أعواماً تخطينا فيها سذاجة الطفولة وسطحية الحياة. واليوم -بعد أن صار لي أطفال- أحاول أن أغني لهم مثلما كانت تفعل أمي، فأُقَلّبُ صفحات الزمن، ولا أرى فيها ما يَسُدّ الرَّمَق، حتى أصِلَ إلى زمن "الفرتكة" التي لم نسمع بها طوال عُقود من الحروب التي لم تنتهِ! وبغض النظر عن بعض المقطوعات الهادفة هنا وهناك، إلا أن الحالة العامة تبعث على الإحباط والاشمئزاز.

منذ ذلك الزمن لم يتغير في مآسينا شيء، بل زادت وتشعّبَتْ، وكَبُر حزننا وشاخ، غير أن إحساسنا بها تضاءل وتفاعلنا معه اضمحل، وصار كُلٌّ "يُغَنّي على لَيلَاه"، ونسَوا أن "ليلى في العراق مريضة"، وفي الشام مريضة، وفي مصر مريضة، تنتظر الموت وهم يتراقصون لليلى أخرى غريبة تماماً!

لقد كانت تلك الترانيم في ذلك الزمان حالة عامة، لغة سائدة، يتبادلها الجميع، ويتفاعلون معها، يُعلّمونها أجيالهم فيرددها الصغار مع الكبار، ليكبروا على الحقيقة والإحساس المرهف العميق. أما اليوم فلا أدري ماذا سأغني لأطفالي وقد صُدِمْتُ بالجواب بعد ثلاثة عقود: أنّه لم يتطور إحساسُنا الفني مثلما تطورت كوارثنا، بل تدهور ذاك بقدر ما تعاظمت هذه، فأعودُ إلى زمن أمي وأُعِيدُ الكَرّة من جديد!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.