شعار قسم مدونات

لماذا تخلفنا.. البحث عن ثقافة النهضة

blogs - كتب قديمة
"لقد بدأت مصر النهضة مع اليابان أو مع كوريا الجنوبية، ولكنهم تقدموا في حين توقفنا نحن"، سوف تسمع هذه العبارة كل مرة يتكلم فيها واحد من المنظرين عن أزماتنا التي لا تنتهي، ولن يخبرك أحد منهم لماذا تخلفنا بينما تقدم الآخرون؟ ربما يحتج أحدهم أن هذا هو نتيجة عقود من الحرب مع إسرائيل التي استهلكت إمكاناتنا، دون أن يلاحظ أن هذه الحرب قد توقفت منذ أربعين عاما أو يزيد، فلماذا لم نستغل إمكاناتنا في التقدم بعد؟ وآخر سوف يرجع الأمر إلى الاستبداد، ولكن الاستبداد ليس هو سبب التخلف ولكنه عرض من أعراض مرض التخلف. وهناك أيضًا حجج لا تستحق المناقشة من نوع المؤامرة العالمية التي تقودها الماسونية العالمية أو حكماء صهيون أو حتى ميكي ماوس، والتي هدفها الوحيد أن نكون متخلفين. 

لقد بشرنا البعض منذ زمن بأن العلمانية على الطريقة الأوروبية فيها الشفاء لنا من كل أمراضنا، وأنها كما كانت سبب في نهضة أوروبا، فإنها لابد أن تكون سبب في نهضتنا. ومنذ عصر دولة ما بعد الاستقلال، تبنى معظم حكامنا المتغلبين في العالم العربي العلمانية بشكل أو بآخر، وبدلًا من ننهض مثل أوروبا، تدهور بنا الحال حتى بلغنا الدرك الأسفل من التخلف، وتحولنا إلى مجتمعات تعيش عالة على الحضارة. وأعلنت نتيجة اختبار فرضية العلمانية الحل الأمثل لمشاكلنا، يوم أن ثار التونسيين على نظام بن علي، النظام العلماني الأعرق والأكثر تشددًا في العالم العربي، معلنًا فشل العلمانية كثقافة للنهضة.
في واقع الحال، لم تكن العلمانية علاج لمشاكلنا، بقدر ما كانت سبب لهذه المشاكل.

كان وجود قوة أجنبية على الأراضي الإسلامية، تتحكم في الشعوب الإسلامية، وذات خلفيات تاريخية اتصفت بالعداء، أمرًا محفزًا على مقاومة عنيفة، آوت إلى ركن الإسلام كعقيدة وتراث ثقافي. فاستدعت قوى الاحتلال جميع ما في جعبتها من أسلحة.

لماذا تخلفنا؟
حتى مطلع القرن التاسع عشر كان المجتمع المصري خاصة والمجتمعات العربية والإسلامية عامة تسير في مسار التاريخ تحكمها السنن التاريخية الموضوعية، أما تلك المشروعات الإصلاحية التي قام بها في تركيا السلطان سليم الثالث وفي مصر محمد علي باشا، كان الغرض منها نقل وتوطين الأنظمة والتقنيات الأوروبية، وليس نقل الثقافة الأوروبية، فأنشئت مصانع الأسلحة ومدراس المساحة والطب، ولكن لم يتم إنشاء المصارف أو تدريس القانون لأن هذه الموضوعات كانت من لب الثقافة الأوروبية، والتي على الرغم من مظهرها العلماني، إلا أنه بقت تستقي غذائها من الجذور الثقافية الأوروبية، اليهودية/النصرانية، واليونانية/الرومانية، مما لا يتفق مع الثقافة الإسلامية في عالم الشرق. فكان مشروع الإصلاح في ذلك الوقت هو مشروع تحديث Modernization بمعنى إحلال تقنيات الإنتاج والإدارة القديمة بأخرى حديثة، وليس مشروع حداثة Modernity بمعنى الانقلاب على كل منظومة القيم للمجتمع المسلم والبحث عن منظومة قيم جديدة.

انهارت مشروعات التحديث الأولى لأسباب شتى. في تركيا، كانت القوى الرجعية المستفيدة من الوضع السياسي والاقتصادي المتأزم للدولة العثمانية هي من قادت الهجوم الذي أدى إلى أسقاط مشروع التحديث. في مصر، كانت القوى الاستعمارية من قادت الهجوم الذي أسقط مشروع التحديث. وأدى هذا الانهيار في تركيا ومصر، إلى قناعة قوى الإصلاح الرسمية بتبني الحداثة معولًا لهدم قوى الرجعية وأداة لمغازلة الغرب، وهو ما أدى إلى مواربة الباب لدخول العلمانية، الباب نفسه الذي فُتح على غاربه بعد سقوط العالم العربي في قبضة الاستعمار الأوروبي، فعملت قوى الاستعمار على تمييع هويات المجتمعات الإسلامية لكبح قوى المقاومة التي تستمد الروح من الإسلام دينًا وثقافة.

كان وجود قوة أجنبية على الأراضي الإسلامية، تتحكم في الشعوب الإسلامية، وذات خلفيات تاريخية اتصفت بالعداء، أمرًا محفزًا على مقاومة عنيفة، آوت إلى ركن الإسلام كعقيدة وتراث ثقافي. فاستدعت قوى الاحتلال جميع ما في جعبتها من أسلحة، فرمت المسلمين بالتبشير والاستشراق يضللان على المسلمين تراثهم، واستصنعت من أولياءها من آمن بالحداثة، ليس بمعنى نقد التراث القديم وتأسيس معرفة معاصرة، ولكن بمعنى الانقلاب على كل ما هو إسلامي عربي، واستبداله بكل ما هو غربي. كل هذا تحت ستار العلمانية، والترويج للعلمانية بأنها روح الدولة الحديثة التي يزعم الاحتلال بصفاقة بأنها هدفه من الاحتلال، كما صرح بذلك لورد كرومر عميد الاحتلال الإنجليزي في مصر، ومن قبله بونابرت قائد الحملة الفرنسية على مصر.

استهدفت العلمانية العنصر الإسلامي في هويات المجتمعات المسلمة، حتى وجدنا في مصر في الربع الأول من القرن العشرين، من يدعوا إلى الكفر بالعربية لغة الإسلام وإحياء اللغة الفرعونية، يريد بذلك أن يتحدى سنة التطور الألسني، ويستبدل لغة حية متفاعلة، بلغة ماتت بعد أن فشلت في مواكبة تغيرات الزمن. ورأينا في الجزائر، من يدعو إلى تمجيد العرق على حساب الدين، ويزعم أنه لولا العرب لكان الأمازيغ، سكان شمال أفريقيا، مثلهم مثل الأوروبيين في حضارتهم، ضاربًا عرض الحائط بقرون طوال صنع فيها الأمازيغ والعرب تحت ظل الإسلام الحضارة في شمال أفريقيا والأندلس، في الوقت الذي كانت أوروبا قبائل همجية تمور في بعضها البعض.

خرجت علينا مواجهات جديدة تستنزف مواردنا الاقتصادية والاجتماعية، فأصبح العرب ضد الكرد، والكرد ضد الترك، والأمازيغ ضد العرب، فتفجرت المنطقة بالنزعات الشعوبية. وأفشلت دولة ما بعد الاستقلال محاولة تعزيز الهوية الإسلامية.

أدرك العديد من القادة والزعماء في مصر والعالم الإسلامي الطبيعة المعرفية للصراع على الهوية، واختطوا للإصلاح والجهاد الخطط التي تناسب معركة الهوية. في مصر، أدرك الإمام محمد عبده بعد مواجهته مع الاستبداد والاستعمار، أن طبيعة المواجهة لا تكمن في الأسلحة والمؤسسات، بل تكمن في الهوية والثقافة، لذلك تحول في مرحلة ما بعد الثورة العرابية إلى تعزيز وتمكين الهوية الإسلامية العربية في المجتمع المصري، من خلال تلاميذه وكتاباته وأعماله الإصلاحية. وفي الجزائر، توصل عبد الحميد بن باديس إلى نفس النتيجة التي توصل إليها محمد عبده، فأختط لنفسه خطة للمقاومة قوامها تجذير الهوية العربية الإسلامية في مواجهة حملة الفرنسة التي يقودها الاحتلال وحلفاءه المحليين.

وفي أماكن أخرى من العالم الإسلامي، تحولت المواجهة إلى مواجهة تعتمد على تمايز الهوية الإسلامية عن الهويات المصطنعة التي يحاول الاستعمار الأجنبي فرضها من خلال العلمانية. إلا أن هذه الخطط أفشلتها دولة ما بعد الاستقلال، والتي كانت في كثير من الأحوال وكالة للاستعمار تديرها وجوه محلية، برغم الشعارات التي تلحفت بها ابتداء من الوحدة انتهاء بالممانعة، إلا أنها عملت بجد على تدمير الهوية الإسلامية، وإحلالها بهويات مختلفة مصطنعة. بعضها هويات محلية تعود إلى جذور تاريخية لا تدري عنها الشعوب المعاصرة شيء، فأصبح على المصري أن يعرف نفسه كسليل للحضارة الفرعونية، وعلى العراقي أن يعرف نفسه كسليل للحضارة البابلية>

على الرغم أن المصري المعاصر والعراقي المعاصر لا يدرون أي شيء عن المنظومة المعرفية أو الأخلاقية لهذه الحضارات البائدة، والتي يغيب أي أثر لها في المجتمعات المعاصرة. وبعضها هويات شعوبية كالقومية العربية والقومية الطورانية والتي أدت إلى تدمير المجتمعات الإسلامية التي تميزت طوال تاريخها بالتنوع الاثني الذي يثريه الإخاء الإسلامي، فخرجت علينا مواجهات جديدة تستنزف مواردنا الاقتصادية والاجتماعية بين الأعراق المختلفة، فأصبح العرب ضد الكرد، والكرد ضد الترك، والأمازيغ ضد العرب، فتفجرت المنطقة بالنزعات الشعوبية. وهكذا أفشلت دولة ما بعد الاستقلال محاولة تعزيز الهوية الإسلامية، ثم فشلت في استبدال الهوية الإسلامية بهويات علمانية مصطنعة، لينتهي الحال بفشل دولة بعد الاستقلال في كافة المجالات الذي نعاينه اليوم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.