شعار قسم مدونات

"لن نترُككَ وحيدًا كما تركوا عبد الحميد"

مدونات - أردوغان
في ظَلامِ ليْلةِ 15 تموز هتَفَ صَوتُ الخَونة بِفرحٍ، توّاقينَ إلى سَماعِ نبَأ ظفْرِ الانقِلاب العسكرِي على السُلطة الذي باتَت تتّضِح مَعالِمُهُ واحِدًا تلوَ الأخَر.. الليْلة التي أحدَثتْ فارِقًا عجِيبًا على مَرِّ تاريخ تُركيا، ألـ12 ساعة عَرَفَ فِيها الأترَاك معنَى حُبِّ الوَطن.

كطبيعَةِ أيّ انقِلاب عسكرِي بَدأَ التخطيطُ بسِريّة تامّة بِقِيادَة مجموعة "فتح الله غولن"، مِن سُوءِ حظهِم أنّهُم لعِبوا بالنارِ مع قِيادَة كانَ معها شعبَها قلبًا وقالبًا، وطبعًا في النهايَةِ استسلمُوا وأثبَتُوا فشلهُم بِجَدارَة. بدَأت ملامِحُ الانقِلاب تنبَثِق شَيئًا فشَيئًا مع قُربِ الساعَةِ العاشِرة، بدَأت قُوّاتُ الجَيشِ تنتشِر بِكثافَة على جِسرِ البسفور، وكانَ مَرْأَى الاستِغرابِ بادِيًا على وجُوهِ الناس لدرجةِ أنّ مُواطِنًا دَنَا مِن عسكرِي وسَألهُ عنِ السبب فقالَ العسكرِي بِغضَب: "الجَيشُ سَيْطرَ على الحُكمْ، هذا ليسَ مُزاحًا!".

"عُمر خالص ديمير" المُغوَار الذي يَتردّد اسمهُ على مسامِع الأتراك، أوّلُ جُندِي قامَ بإطلاقِ النار على الجِنِرال الانقِلابي "سميح ترزي"، والذي تسبّب في استشهاد "ديمير" بـ 15 طَلقة في 4 ثوان في تِلكَ الليلة.

الأمَّة لن ترَى الخَير مادامَ الخَونَة يَسرحُونَ في نَواحِيهَا. مِنَ الجِهَة الأخرَى كانَ أردوغان في مدِينَة مرمريس غَربَ تُركيا يَقضِي عُطلتَهُ السنوِيّة. مِنْ هُنا يبدَأُ الجُنون: بدَأت فَقراتُ التلاعُبِ بالحُكمِ تظهَر على حَقيقتِها، وبدَأت أيضًا المُدرعات تتحرك في الشوارِع، كانَ الهَدفُ الأوّل والأسمَى الذي يَقعْ عليهِ العَين هُوَ مَقرُّ قناة (TRT) التُركيّة، اقتحمَهُ الجُنود وصَرَخوا عاليًا: " اعتِبارًا مِن هذه اللحْظة وَضَعَتْ القُوّاتُ المُسَلّحَة يَدَهَا على الحُكمْ!". "وضَعَ الجَيش يَدَهُ على الحُكمْ" استهَلّت مُذيعة قناة TRT بهذه العِبارة وهوَ ما أثارَ غضبَ المجموعة الانقِلابية وأعتقد لأنّهُم أرادوا أن تتم العملية باستقرار في الخَفاء دونَ إعلان للشعب الذي يُشكّل عَثرة أمامَهُم.. وكأنّ سيناريو انقِلاب مِصر يَتكرر أمامَنا!

في مَيدان تقسيم وخاصةً في شارِع الوَطن كانت أوّل مُدرعة يَصعَدُ عليها الأتراك في تِلكَ الليلة مُحاولينَ الإمساكَ بالجُنود.. مِن قِبَل الجُنود بدَأ إطلاقُ النار الكثِيف على المُتظاهِرين، يقولُ صحفِي تُركي "أجسادُ الناسِ المُمزّقة عِندما رأيتُها شَعرتُ وكأنّني في سُوريا". قرّرتُ أن أطّلِعَ على وثائِقي الجزيرة الخَاص بِليلة الانقِلاب لأستنكِر هذهِ المُوضَة الغرِيبَة التي تنتَشِر بَينَ دُولِ العالم الإسلامِي بِسُرعةِ البَرق، وكأنّهُم في مِضمار يتَسابَقون مَن سَيُدمّرُ بَلدَهُ بأعظَمِ خُطة.. بِقَتلِ شَعْبِهِ.. بِأقَلّ وَقتْ!

وَصلَ خبرُ سَيطرةِ الجَيش على الحُكمِ لأردوغان مُتأخرًا -وهذا كانَ خطًأ كبيرًا مِن قِبَل القِيادة على حَدّ مُشاهَدتِي للفيلم-، فقامَ بِعِدّة اتِصالات مُهمّة أجْراها ثُمّ أغلقَ هاتِفَه واتجهَ نحوَ مَسجِدَهُ في ذاكَ الفُندُق مُردّدًا "بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمْ"، ثمّ صَلّى صَلاةَ السفَر وبعدَها اتجَهَ إلى تَخطيط كَيفِيّة الخُروج مِن مرمريس قاصِدًا اسطنبول، في هذه الأثنَاء قالَ مُديرُ الفُندُق لأردوغان مُقترِحًا: "سيدي يوجد هُنا زَوارِق على الساحِل نستطيع أن نوصِلك إلى جُزرِ اليونان فهيَ قريبة مِن هُنا"، غضِبَ أردوغان جدًا وقال: " ما شأنِي باليونان أنا أُريدُ اسطنبول"، فاعتذرَ مُديرُ الفُندُق عن تقديمِ هذا الاقتِراح. أنْ تَكونَ واثِقًا بالله مُتَوَكّلًا عليه في ظِلّ مِحنَتِك، وخاصةً كَونُكَ رئيسًا تحمِلُ هَمّ البلد وعِبئًا فوقَ عِبء، فهذهِ مِنَ المَواقِفِ النادِرة التي سَيُدَوّنُها التاريخُ بينَ طيّاتِ دَفاتِرِه!

"هندة فرات" مُذيعة تُركية يُقالُ أنّها مُعارِضَة لأردوغان لكنّها قامَت بِدَور بُطولي، كادَ أن يكونَ مِن ضِمنِ الأسبَابِ الرئيسية لِفشَلِ الانقِلاب، اتصَلَت بِمُديرِ مَكتَبِ الرئِيس وطلبَت مِنهُ تَوضيحُ ما يَجري مِن خِلالِ تَصرِيحٍ مُباشِر مِنَ الرئِيس فسألَهُ فوافَقَ الرئِيس، فاتصلَت بهِ مُباشَرةً صَوت وصورة على الهاتِف، فطلبَ مِنَ الشعبِ النُزول إلى المَيادِينِ مُؤمِنًا بأنّهُ لا يَملِك قُوّة أكثر مِن قُوّةِ الشعب، وفي غُضونِ دقائِق مَعدودَة امتلأت الشوارِعُ بالمتظاهِرين.

استقلّ أردوغان طائِرَة مَروَحِية لِيَتَوجَه إلى اسطنبول واستطاعَ السَيطرَة على الوَضع، ومعَ استِسلامِ فِرقَة عسكرية منهُم سُرعانَ ما تَوَالت باقِي الفِرَق في الاستِسلام، وبدَأت المُدرعات في التَرَاجُع، ومع هذا لم يَسلَم المُتظاهِرونَ مِنَ الرصاص والنار، فقد كانوا يَطلِقُونَ النار بِكثافَة انتِقامًا مِن فشلِ الانقِلاب، وشُعورِهم بأنّ نِهايَتُهُم تَلوحُ في السماءِ أمامَ أعيُنِهِم بأنّهُ قد حَانَ وَقتُها. ثمّ أعلنَ أردوغان فشلَ الانقِلاب قائًلا: "خِلالَ اثني عشرة ساعة الحمدُ لله أصبحَ كُلّ شيءٍ تحتَ السَيطرَة".

"عُمر خالص ديمير" المُغوَار الذي يَتردّد اسمهُ على مسامِع الأتراك، أوّلُ جُندِي قامَ بإطلاقِ النار على الجِنِرال الانقِلابي "سميح ترزي"، والذي تسبّب في استشهاد "ديمير" بـ 15 طَلقة في 4 ثوان في تِلكَ الليلة. وتَخلِيدًا لِذِكرَاه تَمّ بِنَاءُ مدرسة ومُنشآت عِدة وأطلقوا عليها اسم "الشهيد عُمر خالص ديمير" مِن قِبَل الدولة.

حَكَمَ السُلطان عبدُ الحَميد الثاني الدَولة العُثمانِية لِمُدّة 33 عامًا، أدرَكَ فيها خُطط الأعدَاء تِجاهُه، مِنها ظُهور حِزب يُدعَى "حزب الاتحاد والترقي" وهيَ أوّل حركة مُعارِضَة وأوّل حِزب سِياسِي يَتِم تأسِيسَه في الدَولة العُثمانِية.

في انقِلاب تُركيا كانَ قائِدُ الانقِلاب هو "فتح الله غولن" قائِدًا لمجوعة صغيرَة داخِل الجَيش لم تَكُن قَوِية كِفاية، حتى طرِيقَة تخطيطهم للانقِلاب مُقتصِرة على ما سَيَحدُث في الظاهِر فقط دُونَ افتِراض احتِمالات ولهذا اندَثرَت بِسُهولة، معَ العِلمِ أنّ التخطيط كانَ في فترَة قَصِيرة جدًا. هُناكَ أيضًا المُعارَضَة، بالرغمِ مِن أنّها ضد أردوغان وحزبُه إلا أنّها وقفَت مَعهُ في سَبيل فَشلِ الانقِلاب.. أن تُقدّم مَصلحة الوَطن على مصالِحكَ الشخصية.. فهذا يتجسد في "الاختلاف في الرأي لا يُفسد للوّد قضية".

"لا غَالِبَ إلَّا الله":
حَكَمَ السُلطان عبدُ الحَميد الثاني الدَولة العُثمانِية لِمُدّة 33 عامًا، أدرَكَ فيها خُطط الأعدَاء تِجاهُه، مِنها ظُهور حِزب يُدعَى "حزب الاتحاد والترقي" وهيَ أوّل حركة مُعارِضَة وأوّل حِزب سِياسِي يَتِم تأسِيسَه في الدَولة العُثمانِية، كانَ الهَدف الأساسِي لِهذا الحِزبْ هوَ خَلعُ عبدُ الحَميد واتّهامُهُ بِحَرقِ كُتُبِ الشرِيعَة والعِلم، نَعم حَرْقِ الكُتُبْ! ومِن جِهَة أُخرَى هوَ الذي أمَرَ بإنشَاءِ جامِعَات في اسطنبول. حتّى إنّهُ رَدّ قائِلًا: "كُلّ أعدَائِي اليَومْ- ويا لَهُ مِن قَدَرٍ غَرِيبْ- قَدْ تَعَلّمُوا في المَدَارِسِ التي أنشَأتُهَا أنَا ويَزعِمُونَ بِأنّنِي (عَدُوّ العَقْلِ والعِلمْ)".

رِسالة مُواطِن: "لن نترُككَ وحيدًا كما تركوا عبد الحميد"
رِسالة قَصِيرَة خَطّهَا مُواطِن تُركي على وَرَقة صَغِيرَة تَرَكَها في لجْنَةِ الاقتِرَاع مُرفَقَة بِوَرَقةِ التصوِيت على الاستِفتَاءِ الدُستُورِي في إبريل الماضِي، وكأنّهُ يَقولْ هذا لمْ يُخِيفُنا، ودائِمًا كُنّا نُردّد يا الله.. بسم الله.. اللهُ أكبر، الانقِلاب عَلّمَنا دَرسًا مُهِمًّا في الوَعي والحَذرْ، وها نَحنُ نَقِفْ مَعَك ولمْ ولنْ نترُككَ كمَا ترَكوا السُلطان عبدُ الحمِيد الثاني، ولا عَزَاءَ للقَنَواتِ العَربِيّة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.