شعار قسم مدونات

عقدة صاحب الكرة

مدونات - طفل وكرة

تشتهي أن تقرصه من خده وتقول له: كُفَ عن فعل هذا! ولكن المسافة بينكما أبعد من قرصة الخد!
حينما كنا صغاراً، نطوف في الحارات نخطب اللهو ونبحث عن السعادة في شتى أمور الحياة وفسافسها، بعيداً عن همومها وخطوبها ومتطلباتها، لم تكن شروط السعادة معقدة آنذاك، فرأس مالها كان بيدر فسيح يترك آثاره على ملابسنا، وكرة مهترئة بثمن بخس أو حبات من الجلول "البنانير".

كان ذلك وقتها كافياً لأن يترك بصمة كبيرة في يومنا، ويرسم بسمة على محيانا وسعادة تغمر قلوبنا، وتترك أثرها الكبير في عقولنا التي غيبها اللعب واللهو عن معارك الحياة ومتاعبها. وقد كانت البطولات حينها توزع على ذاك البيدر بشكل يومي، فهذا عاد إلى بيته بأكبر كمٍ من البنانير بعد أن حالفه الحظ والمهارة في ذلك، وآخر سجلَ هدفاً في الدقائق الأخيرة في المرمى الذي كنا نحدد مناراته بأحذيتنا تارةً وبالحجارة تارةً أخرى، ونقيس المسافة القانونية له بأكثرِ طفلٍ فينا يمتلك رجلين طويلتين!

إن أردت التمرد والعصيان وشق طريق النجاح والإنجازات، فالحل بسيط يسير مسَّهل "نسحب الكرة من بين أقدامك ونذرك تحلم في انجازاتك الوردية".

أما الصحبة والتحالفات فقد كانت تعقد بناءً على المهارةِ أحياناً والنفوذ أحياناً أخرى، فعامل المهارة كان مهماً في جلب الصداقة والمحبة للشخص الذي يمتلكها، والحقيقة أنها لم تكن محبةً لشخصه وإنما تودداً لمهارته وما يمكن أن تجنيه تلك المحبة من فوائد، كالفوز في مباراة كرة القدم، أو جني أكبر محصول من "الجلول" وقِسْ على ذلك بقية الألعاب ! أما النفوذ فقد كان يُفضل على جميع أنواع المهارة بأشكالها كافة، وقد كان النفوذ حينها يتمثل في امتلاك الكرة التي نلعب فيها على سبيل المثال لا الحصر، وهذا هو أكبر أنواع النفوذ حينها فقد كانت صلاحيات صاحب الكرة بالنسبة لنا كأطفال توازي صلاحيات وزيرٍ أو يزيد.

فصاحب الكرة هذا في كثير من الأحيان لم يكن صاحب مهارة، ولا يعرف كيف تركل الكرة حتى، وفي أي اتجاه يحركها! ولكنه كان هو من يحدد من سيلعب فيضم إلى حزبه من يشاء، ويضع في مواجهته من يشاء ويستثني من اللعبة من يشاء أيضاً!

ليس ذلك فحسب، بل كان يتحكم في وقت المباراة فإذا كان فائزاً باستطاعته أن ينهي المباراة حينما يشعر بأي خطرٍ يداهمه، وفي حال خسارته فقد كان الوقت يمتد حتى لا نستطيع رؤية مكان الكرة بين الأقدام حيث تمتد اللعبة لما بعد غروب الشمس. وليت الأمور تتوقف عند ذلك، "فكونغرس الفيفا" وقوانينه كلها يمكن أن تتغير من أجل مرضاته، فالمخالفة لها قانونها الخاص لديه وضربة الجزاء يمكن أن تصبحَ سبعُ ضربات كما اشتهر في طفولتنا!

الحقيقة أنه لم يكن لدينا حيال ذلك أي موقفٍ جدي ولا يمكننا الاحتجاج البتةً، فباختصار شديد يمكن لهذا الطفل في أي وقت يشعر به بوجود خطرٍ يداهم زعامته أو يكسر كلمته أن يسحب الكرة ويعود أدراجه ويتركنا نسفي لعابنا الذي يسيل على تلك "المجنونة" التي يحملها بين يديه، لذلك كنا نصبر على تلك الديكتاتورية ولا نصبر على الحرمان.

صاحب الكرةِ هذا لم يبقَ صغيراً، ولكنه ظل يمتلك تلك الكرة التي كبرت معه هي أيضاً ولم تبقَ على شكلها، ونحن أيضاً شَبَّت قاماتنا وكبُرت أعمارنا وأرتنا الحياة من شظفها وقضها وقضيضها ما شاءت أن ترينا، ولكن ظل صاحب الكرة زميلنا في الصغر مرافقاً لنا في الكبر، وبتنا نرى على شاكلته نماذج ونماذج وتبين لنا أن الأمر لم يكن مقتصر على حيِّنا وبيدرنا فقط، وإنما في كل ميدان كان وما زال هناك صاحب تلك الكرة الملعونة!

كبرنا ونضجنا وانتقلنا من ميدان "البيدر" إلى ميادين الحياة الأخرى وتوسعت علاقاتنا من صاحب الكرة إلى أصحاب الكرات المختلفة، ففي بلداتنا هناك من يحمل الكرة، وفي جامعاتنا هناك من يحملون الكرات وليست كرةً واحدة، وفي كل مكان وجدناهم وفي شتى ميادين الحياة تركوا لهم بصمةً وأثراً لا ينسى، ولكن أي أثر؟! فهم لن يسمحوا لك أن تحقق مجداً دون أن يتسلقوا عليه، ولن يتركوا نجاحاً لن يصعدوا على أكتافه، ولن يدعو لك شيئاً من شأنه أن يعلي من شأنك أو حتى يعلي من شأن العامة إلا واشترطوا وجود اسمهم في مقدمته، فالقاعدة تقول : للنجاح والانتصار آباء كُثُرْ ، وهذا باختصار لأنهم أصحاب الكرة وهم من يملكون القوة والنفوذ!

لن نعطيك فرصة واحدةً للنجاح دوننا، فأنا "لا أستطيع منافستك فأزيحك! أنت أجمل فأشوهك! صوتك أعذب فأكتمه!" فالحياة يا عزيزي أدوارها متكاملة، أنت تطبخ ونحن نأكل، وأنت تغسل وتكوي ونحن نلبس.

أما إن أردت التمرد والعصيان وشق طريق النجاح والإنجازات سواء لشخصك أو حتى للناس عامة، كالطلاب في الجامعات مثلاً أو المواطنين في بلدة ما دون إشراكهم ونسب الفضل في ذلك إليهم، فالحل بسيط يسير مسَّهل "نسحب الكرة من بين أقدامك ونذرك تحلم في انجازاتك الوردية" هكذا إذاً تدار الحياة بالنسبة لهم، نحن لا نمتلك المهارة، ولا نعرف كيف تركل الكرة، ولا بأي اتجاه يمكننا ركلها، ولكننا لسنا بحاجة لتلك المهارات وليس لدينا خُلْقاً لتعلمها، فنحن من نملك النفوذ، فإما أن تلعب أنت وتسجل الأهداف وتحقق الإنجازات ثم نصعد نحن إلى منصات التتويج، أو أن تحيد عن هذا الصف ونحن بدورنا نسحب الكرة من بين أقدامك وإن حاولت امتلاكها عرقلناك!

ولن نعطيك فرصة واحدةً للنجاح دوننا، فأنا "لا أستطيع منافستك فأزيحك! أنت أجمل فأشوهك! صوتك أعذب فأكتمه!" فالحياة يا عزيزي أدوارها متكاملة، أنت تطبخ ونحن نأكل، وأنت تغسل وتكوي ونحن نلبس، وأنت كذلك تزرع ونحن من نحصد ونجني الثمار، أما غير ذلك فلا زرعاً ولا حصداً ولا ثماراً حتى، ولتذهب أنت ومن تعمل من أجلهم إلى الجحيم، فمبدؤنا يا عزيزي يقول "يا إحنا الكل بالكل، يا بنخرب على الكل" أو ربما تسعفنا المقولة الشعبية أكثر حيث تقول "يا لَعّيب يا خَرّيب".

فيا ليت المسافة قريبةً لتسعفنا أن نقرصهم من خدهم ونقول لهم "كفوا عن فعل هذا" ولكن حقيقة الأمر أن المسافة أبعد من قرصة الخد بكثير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.