شعار قسم مدونات

حداثة النزوة في مواجهة قيم التحديث

blogs - ناس في الشارع
من الطبيعي أثناء مخاضات النهوض الأولى عند كل الأمم، أن يوجد انتهازيون كثر، يرفعون راية الحداثة، ويتغنون بأحلامها المنسوجة بخيوط فكر عنكبوتية، كل ذلك ليقمعوا بها فكر التجديد المتفاعل في أوساط الأمم الطامحة بتحول ينتشلها من مستنقعات الانحطاط، وأوحال الركود، الذين سئموا النتانة المنبعثة من بحيرات التفاعل الميت فيها. 
مثل هؤلاء ستجدهم ينطلقون للتبشير بحداثتهم من المنظور المادي الغرائزي، المستجلب لسعادة مبتورة، بنشوة لا يدركون قصر لحظات الاستمتاع بديكوراتها، الممغنطة للأرواح المنتشية في الشعوب الطامحة بخداع ممنهج، لم يُحكم بضمير حي سليم في تصوراته، أو قصد نقي في خلق رؤاه.

هم لا يريدون للشعوب نهوضاً، بقدر ما يريدون الضمان لذواتهم بمستوى معيشي معين، على حساب أحلام الأمم وطموحاتها، يسعون لخلق بريق مادي ينتج سعادة يسكنها الجفاء ويستبطنها الجَوَف، توجد أنساً لحظياً ليس له مستقر، إلا للمدة التي يؤسس قواعد الكآبة في المستقبل، وأعمدة الحزن القادم من المجهول.

هؤلاء يزعمون بأنهم الأعمق في تصور متطلبات تحديث حياة الناس، والأدق في إحلال رؤاه في واقع حياتهم، ولم يضعوا في حسبانهم إمكانية القصور لديهم، أو احتمال إخضاع نظرياتهم للتشذيب والتهذيب، والاعتراف بنقص تصوراتهم للحداثة التي اقتصرت قياسات حضورها أو غيابها على توفير ما يشبع الغرائز ويمتع الشهوات، لذلك تجدهم مستعدون للخضوع لجلد الضمير المزمن، أكثر من استعدادهم لتصحيح واقعهم المقود بأدوات غرائزية لا تفكر إلا في الحال الذي تحاكيه اللحظة ويستدعيه ما تحت منتصف الجسد.

النهوض بالشعوب من مستنقعات الانحطاط، لن يكون بتطوير وسائل الجذب لثرواتها، وأدوات الخداع التي تستعرض لاستلاب ثرواتها، الأمم والشعوب اليوم محتاجة إلى تحديث القيم، ذات القدرة الوحيدة، لجعل المادة أداة من أدوات إدارة السعادة.

سيعيشون حالة مكابرة مفرطة مع كل متطلبات الكون الذي يريدون النهوض بحالة التفاعل والتدافع فيه، ويتطلب منهم النظر إليه من خلال كل ما له علاقة بالإنسان روحاً وجسداً، سيتخلون من خلال تلك المكابرة عن كل إنسانية الحياة، والإيناسات المبثوثة بشكل مكثف في الكون، لا يوجد قاموس للبقاء في تصورهم إلا لذواتهم، لذلك أحرموها من لذة الامتلاك للجرأة على مراجعة الذات.

ربما لم يدركوا بعد بأن الشعوب أصبحت تتقيأ من حداثة المادة المتجلطة في سرعة قطار الزمن المتجاوز لكل خطوط الخيال، والتي أصبحت تصنع ذاتها، وتعرض نفسها للبشر دون تردد، ولا تراعي تحصيل السعادة للإنسان، بقدر ما تسعى وبقوة، إلى اختطاف ما يمتلكه من مال وهذا هو همها الأساس.

إن ما على المجتمعات التي لا تزال تفتقر لحداثة المادة فعله للحصول على حداثة كتلك، هو فتح مجال للتنافس في استيراد وتصدير النخاسة لديكوراتها، وعليها أن تدرك كذلك أنه قد لا يكون تنافساً شريفاً، وجواً مستقراً يأمن من خلاله المنافس عدم فقدانه لها، أثناء جريانه لجلب ما تمتلكه تلك المجتمعات، من ديكورات حسن، ومساحيق جمال.

النهوض بالشعوب من مستنقعات الانحطاط، لن يكون بتطوير وسائل الجذب لثرواتها، وأدوات الخداع التي تستعرض لاستلاب ثرواتها، الأمم والشعوب اليوم محتاجة إلى تحديث القيم، ذات القدرة الوحيدة، لجعل المادة أداة من أدوات إدارة السعادة، المرهون اكتمالها بتزاوج المادة المتجلطة بالروح المتموجة في عالم الوجدان، ومثل هذه الحداثة لا يمكن استجلابها بالمال، كما أنها لن تتأتى باستيراد الجمال، الذي ينتج في معامل الأطماع لدى الآخر، لأن المال ليس قيمة إلا لمحسوس مثله، بل ربما يكون ضخ المال سبب رئيسي لتضخم المادة، هذا التضخم قد يؤدي إلى تكدسها على كاهل القيم المنهكة، كما أن الجمال الذي ينتجه الآخر في معامل أطماع الآخرين قد يكون فخا للإسقاط لا عمودا للاستنهاض، خاصة ونحن في زمن أصبح مقياس النجاح، حاصل بموازين فنيات الخداع.

الأصل في بني الإنسان أن يوجدوا لهم حكومات تركز على توفير السعادة لهم، لا يكون همها التفنن في نحت ديكورات الجمال، التي تخادع بلوامع إغراءاتها الشعوب، لأنها ستجعل وراء كل ديكور فخا للطموح لديها، ووراء كل فخ غرف مشحونة بقذارات الامتنان.

إن معاناة العالم الحقيقية اليوم، هو في انفراد حداثة المادة المحسوسة بتفكير الآخر، أسست عقليات مستعدة لممارسة الإجرام بذريعة الحفاظ عليها، وتدمير ما تشكل من جمال لدى من سواها، حينما تشعر تلك العقليات إمكانية مشاركة الغير لها في صناعة ذلك النهوض، ورفع أعمدة التشييد.

فالحضارات التي لا تعانق فيها المادة للروح، لا يمكنها الحفاظ على ما شيدته من منحوتات المادة بخيال الجمال، لأن انعدام الاستقرار النفسي والوجداني والعاطفي فيها، يدفع أربابها إلى تدميرها، لأنها تعتبر في قواميس السنن الكونية أصبحت عبئاً لا عابئةً، ومن تدفعه تفاعلاته النفسية إلى تدمير ما نحتته يداه من المادة لا يمكنه أن يكون سعيداً، لأن عناصر السعادة وبذرات الأنس لا تسكن إلا في أجواف الروح والروح فقط.

ولأن الأمر كذلك، وكل العالم يجري وراء التحصيل للسعادة، فإن تحقيق عناق مادتها للروح، أمر جمعي، يتحقق بإرادة جماعية، بانتظام يحدد تشكلاته البشر، باجتهادهم في إنتاج قوالب إدراته ووسائل التشييد فيه.

وعليه فإن الأصل في بني الإنسان أن يوجدوا لهم حكومات تركز على توفير السعادة لهم، لا يكون همها التفنن في نحت ديكورات الجمال، التي تخادع بلوامع إغراءاتها الشعوب، لأنها ستجعل وراء كل ديكور فخا للطموح لديها، ووراء كل فخ غرف مشحونة بقذارات الامتنان وأوساخ ادعاء واحدية الإنجاز.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.