شعار قسم مدونات

النّقاش اللغوي في المغرب.. معركة لغة التعليم

Ten year-old Amira Bey, granddaughter of National Director Malika MacDonald-Rushdan, writes the Arabic and English words for

رُوِيَ أن الحكيم (كونفوشيوس) سُئِلَ ذات يوم عمّا سيفعلُ إذا ما أصبح حاكم البلاد؟ فقال: إصلاح اللغة بكل تأكيد. فسئلَ مرة أخرى لماذا؟ فأجاب: إذا لم تكن اللغة سليمة، فما يُقال ليس هو المقصود وما يُستحقُّ إنجازهُ لن يُنْجز. وإذا لم يُنْجزْ ما يستحق إنجازهُ فإنّ الأخلاق والفنون يحلُّ بهما الانحطاط.

إنّ اللغة هوية ناطقة هي عالم الإنسان وقَدَرُهُ، وأينما ارتسمت حدود لغته تكون حدودُهُ في الثقافة والاقتصاد، فاللغة بتعبير (هايدجر) هي الهواء الذي نتنفّسُهُ ونفكّرُ بهِ. وهي عمود الفكر حسب قول الفيلسوف الألماني الشهير (غوته) (لولا اللغة الألمانية لما قامت الفلسفة الألمانية)، فاختيار اللغة القومية والعمل على إصلاحها من أهم أسباب نهضة الأمم والدّول.

يأتي هذا التقديم في السياق الذي خرج فيه وزير التربية والتعليم في المملكة المغربية الأسبوع الماضي بقرار تدريس اللغة الفرنسية انطلاقا من السنة الأولى في المستوى الابتدائي، وقد أثار هذا القرار الذي جاء تنفيذا لوصيّة من وصايا الممجلس الأعلى للتربية والتعليم عدّة أسئلة متعلّقة بإشكالية ازدواجية لغة التعليم، فقرار من هذا الحجم يمكنُ أن يُرجع التعليم المغربي إلى سنوات الحماية الفرنسية، حيث كانت للفرنسية حصّة الأسد في تدريس المواد التعليمية. وهو أمر قد يفرضُ على المجتمع المغربي عموما وعلى المتعلّم المغربي سياسة لغوية جديدة تضمنُ استمرار سيطرة الفرنكوفونية على لغة التعليم في جميع مراحله الابتدائية والإعدادية والثانوية. بل وحتى نفعيّا ماذا سيجني المغرب علميّا واقتصاديا من تعليم الفرنسية منذ السنوات الأولى ابتدائي؟

1) الازدواجية اللغوية في التعليم تُقوّضُ جودة التعليم

اللغة الفرنسية متخلّفة جداّ في البحوث العلمية المنشورة على المجلات الدولية المحكمة حيث لا تتعدّى نسبتها 4 في المائة وهي النسبة نفسها الخاصة ببراءات الاختراع على المستوى العالمي.

حيث أنّ مناقشة قرار من هذا القبيل تفرض علينا الاتفاق أولا على ما يلي : من المعروف لدى علماء التربية والنّفس أن الاستعداد الذهني للطفل العادي ونشدّد على كلمة (عادي) بين سن (6) و (12) لا يجعله يحتمل دراسة وتعلّم لغتين في هذه المرحلة مع ضمان الحصول على نتائج حسنة. ولهذا فإنّ جميع الدّول التي تحتلّ مراكز متقدّمة في التعليم متّفقة على ما يلي:

1) مرحلة التعليم الابتدائي يتم تخصصها لتعليم اللغة الوطنية. 2) مرحلة التعليم الثانوي يتم فيها تدريس اللغات الأجنبية من باب الانفتاح على الثقافات وباقي الحضارات.. وإنْ تأمّلنا في كثير من الدّول التي عرفت نهضة اقتصادية واجتماعية وعلميّة سنجدها قامت على هاتين الدّعامتين في مسألة الخيار اللغوي في التعليم، وأسوق لكم تجربتين للتمثيل لا الحصر.

ـ التجربة الأولى
 دولة سويسرا التي تُصنّف من الدول الأولى على مستوى التعليم، جغرافيتها تضمُّ (22) ولاية وتنتشر على أصقاعها ثلاث لغات هي الألمانية والفرنسية والإيطالية، ومع ذلك فإنّ لغة التعليم الأولي هي اللغة القومية لكل ولاية من ولاياتها، ولا تُدرّس اللغات الأخرى إلا من قبيل الانفتاح اللغوي..

ـ التجربة الثانية
دولة كندا وتضمّ جغرافيا (10) ولايات وتنتشرُ فيها لغتان رسميّتان هما الإنجليزية والفرنسية، (9) ولايات منها تتكلّم الإنجليزية، في حين الفرنسية تنحصرُ في ولاية واحدة هي ولاية كِبّكْ. رغم أن الغلبة العددية للإنجليزية فإن الحكومة المدنية ضمنت لإقليم (الكبك) التدريس بلغته، وتعليم لغته التي هي الفرنسية. ولا أحد خطرَ على باله توظيف اللغتين معاً في التعليم الأولي.

إنّ اللغة هوية ناطقة هي عالم الإنسان وقَدَرُهُ، وأينما ارتسمت حدود لغته تكون حدودُهُ في الثقافة والاقتصاد، فاللغة بتعبير (هايدجر) هي الهواء الذي نتنفّسُهُ ونفكّرُ بهِ.

فلو كانت الازدواجية اللغوية في التعليم مقبولة تربويا ونفسيّا لَطَبّقتْها كندا التي تعتبرُ نموذجاً يُحتذى به في التعليم والتنمية البشرية عموما. يُضاف إلى هذا تجربة دولة اليابان تبنّتْ خيار اللغة اليابانية في التعليم رغم الهزيمة العسكرية في الحرب العالمية الثانية، واليابان الآن قويا لغويا واقتصاديا وسياسيا وعلميا. بعدا هذا كله، يتبيّن لنا أن الازدواجية في لغة التعليم ومن السنة الأولى ابتدائي ستقوّضُ جودة التعليم في الوقت الذي نسعى فيه إلى النهوض بالتعليم، والتجارب الدولية في هذا المضمار مروحة أمام الجميع.

2) اللغة الفرنسية خيارٌ لغوي غير مناسب للتعليم المغربي
بما انّ مقالنا هذا جاء في سياق النقاش الهادئ والرّصين لقرار الوزير، يشير أيضا أن خيارَ الفرنسية باعتبارها لغة ثانية في التعليم المغربي ليس خيارا صائباً، نظرا لعدة أسباب أهمّها الفرنسية في حدّ ذاتها، فاللغة الفرنسية تراجعت كثيرا في التصنيف العالمي للغات، ولم تعدْ لغة الاقتصاد فضلا على أن تكون لغة العلم، وهذه الإحصاءات تُثبتُ لك أن الفرنسية خيارٌ لغوي كارثي للتعليم المغربي:

أولا.. يوجد في العالم (7) مليارات نسمة، منها (125) مليون فقط من يتكلمون الفرنسية، يعني 98 في المائة من سكان العالم لا يتكلّمون الفرنسية.
ثانيا.. في تقرير نشرته منظمة اليونسكو العالمية عن الكتب الجديدة المنشورة في العالم احتلّتْ فرنسا المرتبة 12 عالميا مقارنة مع بريطانيا وأمريكا، حيث كتاب فرنسي واحد يُقابلهُ 3 كتب في بريطانيا و8 كتب في أمريكا.

لو كانت الازدواجية اللغوية في التعليم مقبولة تربويا ونفسيّا لَطَبّقتْها كندا التي تعتبرُ نموذجاً يُحتذى به في التعليم والتنمية البشرية عموما.

ثالثا.. اللغة الفرنسية متخلّفة جداّ في البحوث العلمية المنشورة على المجلات الدولية المحكمة حيث لا تتعدّى نسبتها 4 في المائة وهي النسبة نفسها الخاصة ببراءات الاختراع على المستوى العالمي.
رابعاً.. تراجع استعمال الفرنسية في شبكة الإنترنت على المستوى العالمي 4 في المائة فقط. أما على المستوى المحلي (حسب موقع قناة الجزيرة) فإنّ المغاربة يستعملون اللغة العربية بنسبة 69 في المائة مقابل تراجع مستعملي اللغة الفرنسية.
خامسا.. الفرنسيون أنفسهم 39 في المائة منهم يتكلمون الإنجليزية ، تقريبا ثلث الفرنسيين، وهذا رقم يحمل ألف معنى.

إنّ هذه الأرقام وغيرها تؤكد أن الفرنسية التي اختارها القرار الوزاري هي موضع ضعف، علميا واقتصاديا وسكانيا، فكيف إذن سيتطوّر التعليم المغربي بلغة تعتبر فاشلة الآن! وحتى تاريخ تدريسها في المغرب غير مُشرّف، والدليل الضعف اللغوي، والفقر المعجمي الذي يعاني منه التلاميذ في المدارس العمومية، فهذا القرار من نوع تكرار الخطأ نفسه. هذا بغض النّظر عن العلاقة المتوترة بين التلميذ المغربي واللغة الفرنسية. وهذا ما سنتحدّث عنه في الحلقة القادمة التي سنخصّصها للحديث عن الكُلفتين النفسية والاقتصادية لتعليم الفرنسية في نظام تعليمي مزدوج لغويا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.