شعار قسم مدونات

قراءة مغايرة لإحداثيات زمن التأسيس

blogs - عمر بن الخطاب
بعد انتقال الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى تم تأسيس دولة الخلافة الراشدة على يد أبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، كانت الدولة الناشئة آنذاك أشبه بالنظام الجمهوري البسيط المتعارف عليه الآن حيث الجميع من الناحية السياسة متساوون "وليت عليكم ولست بخيركم"، وحيث الحاكم والمحكوم متساوون بعقد اجتماعي شفهي على الأقل في هذه المرحلة، وحق المعارضة مكفول "فإن أسأت فقوموني".

ثم بعد ذلك تولى -عمر رضي الله عنه- الخلافة وفي عهده لم تكن الحقوق السياسية وحدها المكفولة والمتساوية مع الجميع بل كانت المزايا الاقتصادية كذلك حيث لا ميزات تعطى لرأس الدولة ولا لطبقة خاصة زيادة عن المحكومين، بلغ الأمر أن حوسب عمر في عدة أمتار من القماش حسبها البعض زيادة في عطاءه. حين تولى عثمان رضي الله عنه بدأت الإحن القديمة تطفو على السطح من أقارب عثمان من بني أمية الذين لم يروا في هذا الأمر الجديد سوى شقه الدنيوي، سبق أن حذره عمر من ذلك بقوله "لا تحملن أقاربك على رقاب الناس"، تحرك أقارب عثمان -رضي الله عنه- بعد توليه الخلافة بشكل متسارع للسيطرة على مقاليد الأمور والهيمنة على مفاصل الدولة مدفوعين بتاريخ قبلي لا يرى للآخرين أي حق بالأفضلية عليهم.

من هنا بدأ المسار السياسي الإسلامي ينعطف انعطافا خطيرا، كانت السنوات الأخيرة في عهد عثمان -رضي الله عنه- مثالا للتخبط السياسي والتكالب على الدنيا من جانب أقربائه وولاته أدى ذلك إلى ظهور طبقة مترفة تحمي مصالحها الخاصة، فقط من هنا نشأت معارضة قوية من الأمصار والعواصم التي انضمت إلي الدولة وكان أن انضم أيضا لحركة المعارضة هذه بعض أبناء الصحابة كالحسن والحسين ومحمد بن أبي بكر، هذه المعارضة الأولى ستتحول بعد ذلك في محاولة ساذجة لتبريريها وشيطنتها من مؤرخي بني أمية لاختراع شخصية عبد الله بن سبأ اليهودي وإلصاق كل التهم لتلك الشخصية الأسطورية وتحميلها تأجيج الصراع بدلا من دراسة تلك الفترة دراسة موضوعية وإظهار الجانب الإيجابي لتلك المعارضة ومناقشتها بشكل محايد وعلمي، وانتهى الأمر بعد أحداث سريعة ومتلاحقة بمقتل عثمان وتولي علي بن أبي طالب الحكم مما أدى إلى عرقلة المشروع الأموي مرحليا.

اختفت حالة المعارضة التي كانت تتجلى في أبسط صورها بمراجعة عمر وهو قائم على منبره يخطب بالناس ليصعد واقع جديد "من قال لي اتق الله ضربت عنقه" هتف بها عبد الملك بن مروان فقطع بها صوت المعارضة في التاريخ الإسلامي بلا رجعة.

لاحقا سيتحمل العلوييون علي مدار التاريخ الإسلامي عبء المعارضة بكافة أشكالها، وسيدفعون أيضا ضريبة تلك المعارضة لكن بشكل عام لم يستطع الإمام علي أن يستعيد المسار الطبيعي للدولة بسبب ما واجهه من ظروف غاية في الصعوبة؛ فمن ناحية كان هناك المتقمصين بقميص عثمان المطالبين عليا بالثأر لعثمان سواء بحسن نية أو بسوء نية وانقسام معسكر علي على نفسه تحت دعاوى دينية متشددة كالخوارج وتحت دعاوى دنيوية لم تكن ترى جدوى للأمر ولا مغنم من ورائه فتقاعست عن نصرته.

لعلي بن أبي طالب خطبة تقطر ألما وحزنا يصف فيها تقاعس أتباعه عن نصرته ووصفه لهم بأشباه الرجال، لم يستطع علي -رضي الله عنه- السيطرة التامة على مقاليد الأمور ولو حدث ذلك لتم تأسيس نظام حكم عادل يحتذي بأدبياته السياسية حتى اليوم لينتهي الأمر بمقتل الإمام علي أيضا في محاولة اغتيال ثلاثية لم تنجح فيها غير تلك المحاولة ليتولى بعدها معاوية بن أبي سفيان الحكم، وبتوليه الحكم انتهت التجربة السياسية تماما وتحولت الدولة إلي ملكية لا تختلف عن الملكيات التي تجاورها في شيء والتي كانت حركة الفتوحات الإسلامية تتحرك باسم تخليص المحكومين من سيطرة هؤلاء الأباطرة والقياصرة وهيمنتهم وطغيانهم على رعاياهم.

في عهد معاوية والسنون التي تلتها تم تأسيس الثنائية الخطيرة الحاكم السلطان الملك المدعوم بالحق الإلهي الذي لا يجوز الخروج عليه والذي لم يعدم من وجود تبرير ديني لذلك في مقابلة المحكومين من الرعية الذين أصبح لقبهم العوام، والذين عليهم السمع والطاعة، وقبول الهبات التي يمنحها الملك السلطان لا بوصفها حق طبيعي لأصحابها بل بوصفها عطايا يمن بها عليهم. هنا نشأت أبهة الحكم وصولته وهيلمانه.

واختفت أيام عمر تماما من الأفق اختفت مرقعته والشجرة التي كان ينام تحتها بلا حراسة ولا جند ليحل محلها الضياع والقصور وبذخ العيش والأسوار الفاصلة، اختفت قرقعة بطنه من الجوع في أعوام الرمادة ليأتي شره يعوض مئات السنين من حالة الجوع والبداوة التي لم يهذبها دين ولا خلق، ثلاثة من أبناء عبد الملك بن مروان ماتوا بالتخمة.

اختفت تماما حالة المعارضة التي كانت تتجلى في أبسط صورها بمراجعة عمر وهو قائم على منبره يخطب بالناس ليصعد واقع جديد "من قال لي اتق الله ضربت عنقه" هتف بها عبد الملك بن مروان فقطع بها صوت المعارضة في التاريخ الإسلامي بلا رجعة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.