شعار قسم مدونات

بصائر على طريق البحث

blogs البحث فى مكتبة

لقدْ قدَّر الله -تعالى- لي أن أعمل في البحث العلمي في بعض العلوم الشرعية ما يقارب عشر سنين، ولازلت، وشاء الله أن يكون العمل بعد التحاقي به بقليل ثقيلا، فهو ليس مجرد تنقيح كتاب ولا تدقيقه ولا تحقيقه (والتحقيق عمل صعب، لكنه في زمننا صار مبتذلا جدا، فلذلك ذكرته)، ولا هو عمل بحثي نمطي كأكثر الأعمال البحثية المنتشرة في بلادنا العربية والإسلامية، بل شاء الله أن أتلبس بأعمال بحثية حقيقية كنت ولازلت أظن أنها كانت أكبر من قدراتي ومعارفي وطاقتي في ذلك التوقيت، يكفي أن بعضها كان موسوعة علمية ضخمة، صعُبَ على بعض حاملي الشهادات من المتخصصين في الباب أن يعملوا فيها، وأنا وقتها لم يكن قد فات على تخرجي من الجامعة سوى سنة أو سنتين، لكنني وبفضل الله تعالى، وبمساعدة إخواني ومشرفي وأساتذتي الكرام حاولت واجتهدت ونجحت في هذا العمل، ثم تتابعت الأعمال. 

لقد كانت مرحلة صعبةً عليَّ جدا، فأعباء البحث ثقيلةٌ لمن يعرفها، فتلبُّسي بها في سنٍّ صغيرة كان أمرا صعبا في الحقيقة، بيد أن ذلك أفادني جدا على أصعدة كثيرة، كان من أهمها أنني أبصرت حقيقة المشهد العلمي والبحثي العبثي لدى قطاع كبير من كتابنا ودعاتنا، لأنني عاينت بنفسي حقيقته، وولجت ساحة المؤلفات التراثية والمعاصرة ومعترك الخلافات في مسائلها وقضاياها في تخصصي، فعرفت معنى العلم والبحث، وعرفت كيف أنهما قد سُطِّحا بشكل مفزع أصابني بإحباط الشديد. لست هنا قاصدا التنويه بشأن لي أو مكانة، بالعكس، لقد وضعني البحث على الطريق الصحيح، وفي الموضع المناسب، حتى أدركت أن بيني وبين التخصص في مجال واحد مفازةً ممتدة الجنبات.
 

إن العلم كما ستعرفه يوم تلج ساحته الحقيقية شيءٌ يباين كثيرا مما ترى وتسمع في زمننا، وأنا أعتقد أن أكثر ردات الفعل غير المنضبطة تجاه طرح كثير من الدعاة اليوم هي ناتجة عن ضعف العلم لديهم، وعدم قدرتهم على عرض المسائل عرضا علميا وعقليا قويا

أن تلج ساحة البحث، وتعاين مشاقه ومتاعبه، وتقف بنفسك على كلام العلماء وتدافُعِ حججهم وتشعبِ أفكارهم ومذاهبهم ومناهجهم حينها فقط ستعلم حقيقة الأمر، كما ستعلم حجم الكارثة التي نحن فيها. إن العجبَ كل العجب من أناس يجترئون على العلم في زماننا، يتكلمون في كل شيء كأنهم خبراؤه، وكأنهم قد بلغوا من علوم الشريعة مبلغ المجتهدين الكبار، تراهم باستخفاف يتناول المسائل والأقوال فيصحِّحون ويخطِّئون، ويتحكمون تحكم الجهال، يقول الواحد منهم فاغرا فاه: هذا معه الدليل، وهذا ليس معه دليل، وأغلب الظن أنه لا يعرف حقيقةً معنى الدليل، إلا ما أُشربَه من معنى سطحي قاصر. لا أعلم -حقيقة- هل مرَّ بالناس زمان سُطِّح فيه العلم كزماننا أم لا، لكنني على يقين بأن زماننا آيةٌ في هذا، يؤكد هذا حالُنا، وما نحياه من نكبات متوالية ومتعددة.

إن العلم كما ستعرفه يوم تلج ساحته الحقيقية شيءٌ يباين كثيرا مما ترى وتسمع في زمننا، وأنا أعتقد أن أكثر ردات الفعل غير المنضبطة تجاه طرح كثير من الدعاة اليوم هي ناتجة عن ضعف العلم لديهم، وعدم قدرتهم على عرض المسائل عرضا علميا وعقليا قويا ومقبولا لضعف البنية العلمية العميقة لدى كثير منهم، وغلبة التقليد وشيوعه فيهم، وقد أنتج هذا كثيرا من الإشكالات، منها:

*أن صار يتهم كل مخالف ويُرمى بما نعلم جميعا، فمرةً جاهل، وأخرى مبتدع، وثالثة مخادع وموتور، … إلخ. وكل ما في الأمر أن هذا المخالف تعنُّ له أمور فيقول بها، يعجز البعض عن مجابهته فلا يجد بدا من اتهامه وتوبيخه. وقد جمعني لقاء بصديق في هذا السياق فتكلم عن بعض الإشكالات العلمية في تخصصنا التي يثيرها بعض المستشرقين، وكيف أنها تفتقد لأي بحوث تأصيلية تجيب عنها وترد شبهاتهم وتدفعها، ثم زاد عليها ما عن له من ذلك مما يحتاج إلى أجوبة وردود، ثم قال لي ممازحا: طبعا تعلم أني لو قلت هذا وأعلنته بأي شيء سأرمى! فابتسمت وابتسم ومضينا، كلٌ يعلمُ ما بصاحبه.

إن قلة الإدراك وضعفه مؤذنان بالمسارعة إلى تخطئة الآخر ورميه بغير بينة، وهذا -بطبيعته- مؤذنٌ بازدياد الانقسام والتشتت الذي نعاني منه، ويستغله أعداؤنا أحسن استغلال وأمثله في إذكاء مزيد من نار الفرقة بين المسلمين، وإنك لترى كيف اتسع الخرق على الراقع في هذا الباب، فلم يعد مقصورا على أصحاب البدع الكبيرة أو الموتورين حقا، بل صار يشمل المخالفين في مسائل الفروع!

* أيضا فإن هذا الضعف في معرفة العلم ومعالجة قضاياه قد حطَّ من شأن بعض الآراء والأقوال التي يروج لها أصحابها، فكثير من الأقوال تكون مبنية على أدلة شرعية وعقلية قوية لمن أدركها وتأملها، إلا أن ضعف الجهل بهذا الأدلة وضعف عرضها يزري بها، ويجعلها سهلة المنال، ويمكن الردُّ عليها بأقصر طريق، وتستشكل بأقرب نظر، وحينئذ لا يقوى مروجوها إلا على الطعن في المخالفين ورميهم بما سبق ذكره في النقطة السابقة، على أنهم لو كانوا ذوي مُكنة حقيقية لما احتاجوا إلى ذلك، ولأمكنهم الرد العلمي المفحم.
 

نحن إذا كنا على يقين بأن نهضتنا متصلةٌ اتصالا شديدا بديننا وهويتنا وتراثنا فإن ذلك يستوجب أن يكون علماؤنا ودعاتنا على مستوى عال جدا من الوعي، بالتراث أولا، وبالواقع المعاصر ثانيا

أذكر: كان لي صديق من المناوئين لكثير مما يروج له بعض التيارات الإسلامية من آراء وأقوال، ويتخذ لنفسه خطا آخر مختلفا، وحين عمل معنا في البحث فترة، تغيَّرَ تماما، لا أقول اقتنع بأقوالهم أم لم يقتنع، هو فقط تأكد بأن هذه الأقوال لها أدلتها وعمقها وقوتها، بغض النظر عن سطحية هؤلاء في عرضها وتقريرها، وهو نفسه ما كان يحدث لي حين كنت أستمع لهؤلاء وهم يعرضون أقوال المخالفين باستخفاف شديد إلى هذا الحد الذي كان يدفعني إلى التساؤل دوما: كيف لعالم أن يقول بهذا القول؟ كيف له أن يتغافل عن الدليل ويعرض عنه إلى هذا الحد؟ كيف هو عالم أصلا وهو بهذه الضحالة العلمية التي دفعته للقول بهذا القول؟ ثم أدركت بعد هذا أنها كانت خدعة. 

المهم في هذا أن ندرك أن ضعف الأقوال لا يأتي منها أحيانا بل من مروجيها ومقرريها، المفتقدين لعمق المعرفة بها وبمآخذها وطرق تقريرها، وهذا يحط منها.

نحن إذا كنا على يقين بأن نهضتنا متصلةٌ اتصالا شديدا بديننا وهويتنا وتراثنا فإن ذلك يستوجب أن يكون علماؤنا ودعاتنا على مستوى عال جدا من الوعي، بالتراث أولا، وبالواقع المعاصر ثانيا. وهذا يستلزم أن يتفقد شباب الأمة التخصصات الشرعية المختلفة وينظروا أيها يحبون التخصص فيه، ثم يلازمونه ويعملون على التشبع منه ليكونوا بحق علماءه ومتخصصيه. ولنحذر مما نراه اليوم من محاولات التفاف على العلم، باستبدال رؤوس جديدة بقديمة، هي هي، فقط غيرت لغتها وبعض سماتها، وكثيرٌ منهم لا يعرف له تخصص علمي ونتاج تأصيلي يمكن عبره التحقق من مكنته فيه.

وفي الختام: أستحضر قولة ابن قتيبة العظيمة -وقد سأل عن رصانة قوله وجماله ما هو؟ أهو قول الأقدمين أم غيره-:"غاب ثم فاض فليس هو إياه ولا هو غيره".  غاب: أي: علم الأولين في عقله. ثم فاض: أي في كلامه وكتبه. فليس هو إياه، ولا هو غيره: معنى العلم والعلماء. وهذه الكلمة تشرح ما أعجز عن شرحه في بيان حقيقة العلم والعلماء، ولو استحضرتها في أول المقال لاكتفيت بها، فعضوا عليها وأعرضوا عن بقيته، فهي ثرثرة أعتذر عنها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.