شعار قسم مدونات

كفاكم غيابًا فإنا هاهُنا ننتظر

blogs - مسافرون عائدون
يقولون إنّ دوامَ الحالِ من المحال، و أن ما من شئٍ يأتِ إلا ليرحل . الإنسان يولد و يموت ،يفرح أحيانًا و يحزن حينًا، قلبك ينقبضُ وينبسطُ جهازك العصبي يُستثَارُ ويَركَنُ، والحبُ في قلبك يثور ليهدأ ليشتعل من جديد، كذلك الإيمان في روحك يزيدُ وينقُص.

الشمس تشرقُ وتغربُ وكذلك القمر يتبعها، سماؤك تُنيرُ نهارًا وتُظلمُ ليلًا تمامًا كمزاجك المتأرجح، حياتك كنبتةٍ يوريها الشتاء لتزهرُ ربيعًا فيهوِي بثمارك الخريفُ لتستعد لحياةٍ جديدة في صيفك، وهكذا تتوالى عليك الأيام ولكنها لا تدوم أبدًا! الأشخاص كذلك، كالشمس والقمر والأيام، يأتون ويرحلون ولا أحد يبقي منهم أبدًا، فقط أنت باقٍ لتشهد السعادة والأسي، وأنّي لنّا بالثبات المطلق يا عزيزي؟

لكنهم في رحيلهم أيضًا لا يتشابهون، منهم من يرحل ليعود فيبقي لأجلٍ معلومٍ، ومنهم من يرحل فيطولُ ترحاله وتشقُ عليهم ذكراك فيَنسوك، ومنهم من يرحل من تلك الدنيا فلا يعود ما دامت الحياة، لكلِ رحيلٍ سببٌ وأثرٌ ومشاعرٌ مضطربةٌ تنتابك برحيلهم، ولهؤلاء، بمختلف صورهم، أوجّهُ إليهم سلامًا آن أوان أنْ يحمله حمامُنا الرسولُ علّه يصل إليكم يومًا.

هؤلاء الذين رحلوا ولم يبقَ منهم سوى ذكرى جميلةٍ تتقافزُ أمام أعيننا بين حينٍ وآخر، ذكراهُم تحلو كل يومٍ عن اليومِ الذي يسبقه، هؤلاء الذين يمدوننا بالقوةِ رغم بعدهم الأبديّ، هؤلاء الذين ننتظر رؤياهم بشوقٍ جارفٍ في يوم المعاد، أو رؤيةً مؤقتةً في حُلمٍ جميل لا يدوم أكثر من ثوانٍ معدودة. 

إليكم سلامٌ معبقٌ بكل نسمات الجمالِ الذي منحتمونا إياه، محمولٌ على عرشٍ من القوة الأبدية الذي أمدنا بها رحيلكم، سلامُنا إليكم كرحيلكم أبديٌ لا ينقطع، نصلي دومًا لأجله علّه ينجو من قانونِ المحال!

ما بالكم بكَمِ اللحظاتِ التي افتقدنا مشاركتم بها، لحظاتٍ مرتّ على مضضٍ لأن شخصكم ينقصها، أم تلك القرارات التى احتجنا مشورتكم بها، وصغارنا الذين كبروا فلا يعرفونكم.

أمّا أنتم، الذين رحلتم بلا رحيل، رحلتم وبقيت منكم مكالمةٌ هاتفية كل مناسبةٍ سعيدة أو حزينة، رحلتم برغبتكم وقد أقسمتم قبلًا ألن تفعلوا، إليكم سلامٌ محملٌ بذلك الشغفِ الذي قتلتموه فينا تجاهكم، سلامٌ يحمل إليكم تلك الأحاديث التي لم تنطقْ، الرسائل التى لم تصلْ وعودتكم التي طالما انتظرناها! لم لا تبقون حيث أنتم؟ اتركوا فرصةً للنسيانِ أن يأخذنا بعيدًا عنكم، لا داعٍ لأن تنفضوا التراب عن صورنا العتيقة في أعينكم كل حينٍ وآخر، سلامٌ إليكم مصحوبٌ بوداعٍ دائم كرغبتكم.

ماذا عن هؤلاء، الذين رحلوا بشكلٍ مختلف عن سابقيهم، هؤلاء الذي رحلوا رغمًا عنهم، سيبقوا زمرًا للمطارات ومراسي السفن، نعم نعلم أنكم أبدًا لم ترغبوا في ذلك، ولكنم فعلتم ونسيتم تلك العهود بأن تبقوا كما أنتم، أتعلمون كم تغيرتم فلم نعد نعرف من أنتم؟ تغير كلامُكم، تغير حبُكم، تغير بقاؤكم، تلك الأحاديث اليومية صارت فقط حين تتقطع بكم السبلُ في غربتكم، رحلتم كغيركم، ولم يبقَ منكم سوى بعض الدنانير وتلك الهدايا عديمة الطعم التي تَمِنون بها كل حينٍ كمبررٍ وعذرٍ، ماذا تغني عنكم أموالكم أو أموال من في الأرض جميعًا؟ هل أخبرناكم ألاّ حاجة لنا بمالٍ غلبكم سلطانُه فصار لغتكَم وحديثَكم وتفكيرَكم وتقديرَكم وحبَكم ووجودَكم؟

ما بالكم بكَمِ اللحظاتِ التي افتقدنا مشاركتم بها، لحظاتٍ مرتّ على مضضٍ لأن شخصكم ينقصها، أم تلك القرارات التى احتجنا مشورتكم بها، وصغارنا الذين كبروا فلا يعرفونكم، ما هذا ما تمنيناه سَوِية يوم كنّا معًا! وما أدراكم بتلك الشدائدِ التي تكاتفت علينّا! وكم من مرةٍ غالبنا الدمعَ وتصنعنا الفرحة بمحادثكتم حتى لا نلقي مزيدًا من الهمِ على هم غربتكم!

عودوا نَرْتَمِي في أحضانكم ونقصّ عليكم كل شيء ونُلقِي عليكم بعض ما إنّ ثقلَه لينوءَ بالعُصبة أولي القوة، عودوا نُعرّفْكم على صغارنا، صغارنا الذين أسميناهم بأسمائكم.

أين كُنتُم حين احتجناكم، حين سقطنا وتقطعت بنا كل السبلِ؟ أين كُنتُم حين انهار العالم فوق رؤوسنا فلم نجد من ينتشلنا من تحت أنقاض الهم؟ أين كُنتُم حين ضاقت علينا الأرضُ بما رحبت وضاقت علينا أنفسنا؟ أين كُنتُم حين طالبناكم بدوركم وتنصلتم منه بأنّ كُلَّ أمرئٍ بما كسب رهينةٌ؟ أين كُنتُم حين كان وجودكُم فرضًا لا نافلةً! والآن حين انهار كُلُّ شيء تلوموننا على ما حدث؟ اللعنة عليكم وعلي بلادكم وغربتكم! من أين لكم الحق باللومِ والصراخِ وتكييل سامِ الكلماتِ والوعيد؟ لا والله، لا حق لكم فينا أبدًا حين رحلتم، لا علم لكم بما حدث هنا فلتزموا الصمت أمرًا لا رجاءً!

فسلامٌ على رحيلٍ أماتنا بدلًا من أن يحيينا، رحيلٍ كمسمارٍ دُقَ في حائط فتصدع وها هو يتداعى كرمادٍ اشتدت به الريحُ في يوم عاصفٍ! سلامٌ على من كُنتُم يومًا كل شيء والآن أنتم لا شيء.. هكذا هما اتفقوا على الرحيل، كل بصورته وأثره، بقوةٍ أمدونا بِهَا أو بشغفٍ اغتالوه قَبْلَ نُضجِه. 

ولكننا هنا، باقونَ على العهدِ، ما زالت قلوبنا تحمل لكم الكثيرَ من الحبِ والعطاءِ غير المنقطع، رغم رحيلكِم، نسيانِكم، نقمِنا عليكم وغضبِنا وتلك اللعناتِ التى صببناها عليكم ونَصّبُها كل لحظة، ما زال في القلب متسعٌ لكم حين تقررون العودة، فقط عودوا كما كُنتُم قبلًا، عودوا كما عهدناكم. 

اتركوا ذلك النسيان، تلك اللهجة المقيتة التي تبنيتموها، تلك العادات التي فرضتها عليكم غربتكم، اتركوا كل ما نِلتُم قبل أن تطأ أقدامُكم أعتابَ حرمِنا المقدس، تطهروا من ذنوبِ رحيلكم قبل ولوجكم وادخلوا الباب كما خرجتم، تغفرْ لكم قلوبنا ما اقترفتموه، وتُفسِحْ لكم مكانًا فوق مكانكم الذي ما غطاه الترابُ قط.

عودوا نَرْتَمِي في أحضانكم ونقصّ عليكم كل شيء ونُلقِي عليكم بعض ما إنّ ثقلَه لينوءَ بالعُصبة أولي القوة، عودوا نُعرّفْكم على صغارنا، صغارنا الذين أسميناهم بأسمائكم عَلَّهم يذكروننا دومًا بكم، أسميناهم تيمنًا بكم عسى يكون لهم منكم نصيبٌ فلا يصيبنا منهم رهقٌ ولا ذلةٌ. 

عودوا لعلّ البهجة تحل بدارنا ضيفةً مرة أخرى، عودوا لعل بعودكم يعود كل غائب، ويمحَى كل بيتٍ من الشعر نُظِم في الفراق، عودوا ولتسقط لفظتي الغربةِ والرحيلِ من معاجمِ لغةِ الضاد، عودوا قد اشتقناكم حد الموت!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.