شعار قسم مدونات

لا أريد أن أكون رقمًا في عداد الخريجين

blogs التخرج

عندما كنت طفلة صغيرة كنت أتخيل مظهري وشخصيتي عندما أصبح ابنة العشرين وكنت أتوق لتلك اللحظة التي لطالما ظننتها اكتمالًا للقوة والاستقلالية وقبولًا لأي تحدي، وها أنا على وشك التخرج من كلية الإعلام وكلما اقتربت ساعة الصفر يخفق قلبي وتصيبني نوبة من الخوف وأتمنى أن تتوقف عقارب الساعة عن القفز. قد يظن البعض أن التخرج الجامعي هو الخلاص وأنه فرصة لتنفس الصعداء، وهو الراحة النفسية في كينونته، لكن الدراسة الجامعية نعمة والتخرج شر لا بد منه.

لماذا؟ لأن الدراسة الجامعية تعطي حماية وحصانة للطالب، إن تفوقت فلنفسك وإن قصرت أحيانًا فلن يعاقبك أحد، وفي مجال العمل إن تفوقت فلنفسك أيضًا لكن إن قصرت فلا مكان لك. إن أخطأت في معلومات خاصة بتخصصك الدراسي فلا بأس، أنت طالب جامعي ولا زلت تتعلم، وإن أصبت فلك الأجر، والسعي مشكور. لكن إن أخطأت في معلومات خاصة بتخصصك الدراسي أثناء العمل فقد ارتكبت جرمًا عظيمًا في حق المهنة وقد ظلمك من وظفك وظلم نفسه وحسرةً على سنون الدراسة التي ضاعت هباءًا منثورًا، أما إن أصبت فهذا واجب عليك لا تفضل منك.

إن كنت تدرس وتعمل في ذات الوقت فأنت مذهل، لكن إن كنت تعمل وتدرس فهذا هو العادي، البكالوريوس وحده لا يؤكل عيش، وإن لم تفعل سيفعل غيرك وستسير القافلة بك أو بدونك، وإذا تأخرت فسيكون من الصعب اللحاق بها. الأمر أصبح تنافسيًا وإن كنت تظن أنك ستجد عملًا بمجرد حصولك على الشهادة الجامعية كما فعل والدك قبل ثلاثة عقود فلتعيد حساباتك. إن كنت تأخذ مصروفًا من والديك أثناء الدراسة فلا عيب في ذلك، أما إن كنت خريجًا ولا زلت ترتع في خير أهلك العميم فسيراك المجتمع عالة وفردًا غير منتجًا حتى إن كنت تسعى للعمل ولم تُرزق بعد، وحتى إن كنت ترفع شعار (لن أعيش في جلباب أبي). أعني.. ماذا الذي حدث في يوم وليلة لتتغير النظرة المجتمعية إلى الطالب قبل التخرج وبعده؟ ومن قال أن الخريج بتخرجه يصبح جهبذ الجهابذة في تخصصه؟ 

 

مرحلة التخرج مليئة بالتساؤلات المخيفة والمشاعر المتصارعة، وأحب أن أشبه تلك المرحلة باكتئاب الحمل. فبالرغم من أن المرأة الحامل تشتاق إلى رضيعها الذي ينمو يومًا بعد يومٍ في أحشائها إلا أنها تصاب باكتئاب ما بعد الولادة حينما يخرج للحياة

بالرغم من أن تقديراتي الأكاديمية تتراوح ما بين ممتاز وجيد جدًا وأنني أحاول أن أقحم نفسي في فعاليات وأنشطة متنوعة إلا أنني أستمر في سؤال نفسي: هل ما تعلمته خلال السنوات الأربع الماضية يؤهلني لخوض سوق العمل بخطى واثقة؟ بالرغم من أن التخرج هو حصاد لما زُرع خلال سنوات إلا أن ثمة شكٌ بأن ما زُرع ليس كافيًا، ولن يزول الشك طالما أن المستقبل مجهول.

مرحلة التخرج مليئة بالتساؤلات المخيفة والمشاعر المتصارعة، وأحب أن أشبه تلك المرحلة باكتئاب الحمل. فبالرغم من أن المرأة الحامل تشتاق إلى رضيعها الذي ينمو يومًا بعد يومٍ في أحشائها إلا أنها تصاب باكتئاب ما بعد الولادة حينما يخرج للحياة. هذه هي طبيعة الإنسان عندما يحدث حدثًا جوهريًا في حياته من شأنه أن يزعزع استقراره المعتاد وألا يعيد الأمور إلى نصابها.

ما يزيد الأمر تعقيدًا أن الجامعة تعد بالنسبة للطلاب البيت الثاني إن لم يكن الأول، فالوقت الذي نقضيه في الجامعة يزيد عن ذاك الذي نقضيه في المنزل، الجامعة ليست مكان لتلقي المحاضرات فقط إنما هي مكان تعيش فيه، تأكل وتشرب وتصلّي وتذاكر وتحضر الندوات وتشارك في الفعاليات وتلتقي أصدقائك وتقوم بفروضك الدراسية وتنام فيه أيضًا -بدون مبالغة-. الأمر أشبه بالخروج من الدائرة الاجتماعية التي أحسنت صنعها لنفسك خلال أعوام الدراسة، الدائرة التي ألفتها ووجدت بها المأوى وسبل الراحة والاستقرار، لتترك كل ذلك وتشرع في تكوين دائرة اجتماعية جديدة في مكان مجهول.. هذا المكان المجهول الذي خطاه السابقون ممن كانوا ذائعي الصيت في المرحلة الجامعية فخفت نجمهم وانقطعت أخبارهم.

لدي اعتقادٌ بأن كثيرًا من الطلاب الذين يلتحقون ببرامج الدراسات العليا بعد التخرج، في أعماقهم شيء يتشبث بالحياة الجامعية ولا يقبل التخلي عن روتينه المألوف، لذلك يلجأون إلى مد المرحلة الجامعية قدر المستطاع.

 

قد يكون وقوع البلاء خيرٌ من انتظاره، لكن عزائي ألا أخيب آمال تلك الطفلة الصغيرة في بعد وقوعه

خلاصة الأمر أن هناك تحديات نفسية واجتماعية كبيرة تواجه الخريج، ما بين تساؤل يجول بخاطره عما اذا كان مؤهلًا لسوق العمل، وبين مجتمع يسمي طالب العام الأول في كلية الطب بالدكتور ويستشيره في الأمور الطبية، مجتمع يتوقع الكثير والكثير فبتخرج الطالب يصبح شاطرًا وغلطة الشاطر بعشرة كما يُقال.

ما بين الحياة المستقرة واليوم الهادئ نسبيًا الذي يقضيه في الجامعة بين مجتمع يألفه، وبين مغامرة مجهولة للبحث عن الذات وشق الطريق من أجل الحصول على وظيفة محترمة، يظل الخريج عالقًا، فرفقًا به. لا أريد أن أعلق شهادتي على الحائط كما فعل الكثير من السابقين، ولا أريد أن أكون رقمًا في عداد الخريجين. قد يكون وقوع البلاء خيرٌ من انتظاره، لكن عزائي ألا أخيب آمال تلك الطفلة الصغيرة في بعد وقوعه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.