شعار قسم مدونات

أنقذني القرآن

blogs- قرأن

رَكبتُ بِسرعة يَومها لِلحافلةِ وجَلستُ في مكانٍ ما بٍجانب النَافذة، وكانَ قَلبِي من الغَيظِ يَعتصِر ففاضت عَيناي بِدُونِ طَوعٍ مٍني، كُنتُ أبكي بحُرقة يَومها غير مكترثة البتة بالأشخاصُ الذينَ كَانوا يَصعدُون للحافلة ولا لِنظَراتِهم التي كَانُوا يَرمُقونني بها، كُلُ ما كُنتُ أحدث به نفسي: (لِماذا أنا يالله !!لِماذا؟! وأمي كيف سأخبِرُها!؟ وأبي إذا سَمِع سينجلِط!!).

لِأَفتح بعدها حقِيبتي يدي باحثةً عن منديل لِيصحِح معالِم وَجهي المُبعثرة، لِأجد مَصحفي بين كُتبي المفرنسة، كان كأنَهُ يُناديني لأَضعه بين راحتي يديّ، لِأَفتَحُه بعدها بعينان تنطقان دمعا وضياع على آية: (وإذا قَرأْت القُراءن جَعلنا بَينك وبين الذين لا يومنونَ بِالآخِرة حِجاباً مستُورا )_45_ سورة الإسراء.

كررت الأية عِدة مرات، والدَهشةُ تَملأ وجهي، كنت متفاجئة كَانت هَذِه الأية رِسالة مِن الله، كانت موجهةُ لي، كانت كالدواء الذي تغلغل في أَعماقي ليُسكِنَ روحي ويَسُد فجَوات قلبي، كأني لِأول مرة أقرؤوها، أغمضت عيناي بِشدة وبدأتُ أقرأ في قلبي كُل ما أتذكره من القُرآن لا أعلم كم كَررتُ آية الكرسي وسورة الفاتحة، لأسمع صوت بعدها يناديني: (سيدتي سيدتي، هل أنت بخير؟) فتحت عيناي وإذا به الشُرطي الذي أوقفني في المطعم قال في لِين وبِلكنتهِ الأسكتلندية الغريبة: "تفضلي تستطيعين أخذ أوراقك ونعتذر لسوء الفهم" كنت أنظر إليه في دهشة، ومددت لهُ يدي متصلبة لأخذ الأوراق وجواز سفري، لا أعلم كيف انتقلت من الكرسيَّ إلى خارج الحافلة التي كانت موجهة لمخفر الشرطة لتحقيق معي ومع من كان معي في المطعم في قضية اختفاء طفلة صغيرة .

لا أعلم كيف انتقلت مِن المشتبه بِه الأول، بحُكم أنني آخر من رأيت تلك الطفلة ذات شعر الأحمر وحَملي لها لتقبيلها ومُداعبتها واختفائها بعد هنيهات من وضعي لها على الأرض، للبريئة التي بُهِتَت للموقف الذي حصل لها في ظرف نصف ساعة، الكثير من تساؤلات راودتني وأنا في طريقيِ لِلفندق، (كيف؟! وماذا حصل!!) ،عَلمتُ أنه القرآن، علمتُ أنني كنت مقصرة في الأونة الأخيرة، لِأُدرِك أن الله ابتلاني لِيذَكِرني بِذلك المصحف الذي نَسيتُ في لحظة أنهُ مفتاحي، والذي أصبحتُ أقرأُ منه دون تمَعُنٍ أو تدبُر، وما ابتلاك إلا لتستقيم .

كان القُرآن ومازال يُنقذني من الوقوعِ في الوحلِ، ومازال يَنتشلني إذا ما وقعت في المُستنقع، وفي لحظاتِ اليأسِ والإحباطِ يأتيك بأية: (مَا ودَعكَ رَبُك وما قلى ) ليواسيك ويبث فيك من اليقين والصبر، ما يكفي لشحنك إيجابيا لتسمو وتطمئن لحكمِه

بكيت يومها لسببين أولهم لتوجيه الجميع أصابع الاتهام لي، دون بينٍ أو تمحيص، وعدم قُدرتي على دِفاع عن نفسي، ووقوعي في مشاكل أنا في غنى عنها، وسبب الثاني لوجه تلك الطفلة وإبتسامتها، وعجزي عن إنقاذها، وبكيت ليلتها لغفلتي وجهلي وعظمة ما لدينا .

تَعلمنا في صِغر كيف نحفظُ القرآن، وكيف نتنافس فِي حفظِه ليتم تكريمنا في إِحدى الأعياد الوطنية أو الدينية لنتحصل على شهادة اعتراف دنيوية، لَكِن كبرنا وتَعلمنا أن نعيد قراءة القرآن وأن نحسن حِفظَهُ بِفهم معانيهِ والتَدبر في آياتهِ بخشوع، لنعلم أنه خطاب الله لنا، ونُمتِّع أعيننا بلذة النظر في كتابه سبحانه، لِنفوز بِلذة النظر إلى وجهه يوم نحشرون، ليكون جزء مِنا ومِن حياتِنا، والحصول على شهادة النجاة من هذه الدنيا وعبور إلى السماء بٍسلام .

كان القُرآن ومازال يُنقذني من الوقوعِ في الوحلِ، ومازال يَنتشلني إذا ما وقعت في المُستنقع، وفي لحظاتِ اليأسِ والإحباطِ يأتيك بأية: (مَا ودَعكَ رَبُك وما قلى ) ليواسيك ويبث فيك من اليقين والصبر، ما يكفي لشحنك إيجابيا لتسمو وتطمئن لحكمِه، وليحفزك للانطلاق من جديد متوكلا راضيا، وفي لحظاتِ ضَياعِك ووهَنِك للقيام للبحث عن نَفسِك تأتيك آية: (لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم ) لتفتح لك أبواب القرآن العظيمة لتبحث عن نفسك بينها، لتعلم من أنتَ ومن تَشبِه، فهو أداتك ومهربك ومخرجك لمعرفة ذاتك، ستطبطب عليك آياته في أحيانٍ كثيرة، وتُعانقك لتزرع فيك نورا بهيا ليخرجَ ما في صدركَ لِتعيدكَ إنسان آخر بِنفس آخر، وسينقذك في أحيان أخرى كلما سولت لكَ نفسُك بالمعصية بآية، وسينقذك كُلما ضعفت وانكسرت ليحتويكَ بآية، سيرافِقُك أينما حللت، سَتجِدهُ رفيقك الذي ينصحك، سيكون مرآتك لينعكس طريقاً لِذاتك، ولِنجاتك، لم أذكر سوى قطرة من بحر معجزاته لعل العبرة بآية ونجاة بآية، فعلينا أن نُحسِن صُحبتهُ في دنيا ونغرف مِن أسرارهِ، ليكون أنيسنا في قبرنا قبل الآخرة. 

كل شخص له تجربة مع القُرآن وتجربتي معه كانت دائما متمثلة في عملية الإنقاذ في العديد من المواقف، ينقذني في أحلكِ ظروف، عند كُلِ حافة، عند كُلِ فوهة بركان، فَلا عجب مِن مُعجزاتهِ وأسراره التي كُل مرة نكتشفها لتنجو بنا، الكُل بيدهِ هذا المُنقذ فقط عليه أن يجِد الطريق إليه، وإذا وجد طريق ولم يستطع الالتزام بقارب النجاة لا ييأس عندما يفقد السيطرة ويسقط في أحد المغريات سيرفعه القُرآن وينتشله مِن كُل ذلك، ليبني صرح التوبة مِن جديد، فقط ابقى على عهد الطريق .اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا ونور صدورنا واجعله حجة لنا ولا تجعله حجة علينا، اللهم اجعلنا ممن يقرأه فيرقى ولا تجعلنا ممن يقرأه فيزل ويشقى اللهم أمين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.