شعار قسم مدونات

أنقذوا السوريين بالمشاريع الصغيرة

blogs المشاريع الصغيرة

كيف يبدأ المرء صباحاته المعتادة؟! صلاة الفجر.. وتناول الافطار.. وفنجان القهوة.. وعائلة، ودفء.. وهدوء يتسلل إلى العائلة متماهياً مع ضوء الشمس.. كيف يبدأ السوري صباحاته؟! إن كان في الداخل فالبدء بالقذائف والهاون والبراميل المتفجّرة.. وإن كان في الخارج فأولئك انما ينقسمون إلى قسمين.. من يمضي إلى العمل، ومن يمضي إلى البحث عن العمل.. وهنا تكون المهمة الأكثر مشقة والأكثر شقاء، خاصة في دول المهجر والمنافي..

 

في اسطنبول على المثال، ليس على المرء أن يمشي كثيراً حتى يجد طفلاً يتعلق بأقدامه ويعيقه عن أي خطوة أخرى إلى الأمام "مشان الله يا خالة عطيني ليرة"، وليس على المرء أن يمشي كثيراً حتى يكبّله بكاء امرأة عجوز، ترجوك أن تشتري منها علبة من المناديل لا يتجاوز سعرها ليرة واحدة، مكبلاً بخطواتك ينهكك هذه النداء "مشان الله يا بنتي"!

 

الوجوه الملوّحة بالشمس.. والأيادي المغموسة بالتراب.. والثياب التي لم يعرف صاحبها سواها، والجسد الهزيل الذي يناشد الله أن يرزقه نعمة الاغتسال والوقوف تحت الماء الجاري! أولئك هم المقهورون، المغبونون، يمسّك دمهم الذي يغلي في عروقهم، عبر أصواتهم المبحوحة: "مشان الله!" وحتى في صباح العيد.. سوف يسبق السوريون شمس ذلك اليوم.. ويخرجون إلى صلاة العيد، ولكن ليس من أجل العيد، وإنما من أجل "كرمى" يعودون بها إلى بيوتهم، وإلى عوائلهم التي لا تعرف من البيت إلا اسمه! هذا إذا لم تكن تلك العائلة كلها قد تفرّقت في الطرق من أجل "تجميع العيدية" إن المعاين لهذه الوقائع يعرف حقاً أن خلف هؤلاء العشرات الذين ظهروا أمامك يستجدونك المال.. إنما يقف المئات الذين أَبَت عليهم نفوسهم أن يمدوا أيديهم إلا إلى الله..

 

خريج الهندسة الذي قضى عمر الثورة في الاعتقال ثم وصل إلى تركيا، إلا أنه لم يجد عملاً لأن الشركات تعترف بالخبرة ولا تعترف بالاعتقال! وخريج الطبّ الذي يقضي يومه متطوعاً في عيادات غير ثابتة المعاش وغير ثابتة الدوام، ويعجزه الحال المادي عن افتتاح أي عيادة خاصة به! والعشرات من الشباب أصحاب شهادات عليا أقلّها بكالوريوس، إلا أنهم لم يجدوا أي فرص للعمل.. والكثير منهم بسبب الحاجة المادية إنما يلجأ إلى أعمال جزئية قد لا يتقبلونها مجتمعياً أو حتى مادياً.. إلا أنها تبقى أخيراً على مبدأ "عصفور في اليد".. هذا عدا عن النساء اللاتي اقتحمن كل مجالات العمل "ولا ضير في العمل عموماً بالطبع دون أن يستنزف الشخص" حتى تلك المنهكة لأجسادهن، بطبيعة عمل منهكة وساعات دوام طويلة.. هذا إن صادفهن الحظ ووجدن عملاً، أما إذا كان العكس فأنت أمام واقع مر تعانيه المرأة نفسها بنفسها.. أما إذا ما تحدثنا عن الأطفال فإن الأمر سيطول.. العشرات بل المئات من الاطفال يعملون في المصانع وفي الشوارع.. فقط من أجل مردود لا يمكن حتى أن نطلق عليه كلمة "ضعيف" لأنه أدنى من ذلك بكثير..

 

إن تسوّل السوريين، ووقوفهم على أبواب الجمعيات الخيرية، ومعاناتهم الكاملة في الحياة في خارج سورية قد تحوّل الأمر إلى ظاهرة علينا ألا ننتظر من الغرباء الذين لجأنا إلى بلدانهم حلّها، على السوريين أن يحلوا مشكلة السوريين بأنفسهم

إن انعكاسات هذا الأمر على العوائل السورية "المهجّرة والمهاجرة" إن استمر الأمر على هذا المنوال فإنه سيكون سلبياً وضاراً خلال السنوات القادمة، فأنت تتحدث عن جيل لم يتلقى أي تعليم من أجل إعالة عائلته، فضلاً عن أن عامل الإعالة لم يتحقق، عدا عن الأثار التربوية السلبية على أطفال حُرمت طفولتهم من حقها الطبيعي، يتلقّون تربيتهم وتعليمهم من المعاناة والحياة في المصانع والمعامل والشوارع!

 

المشاريع الصغيرة

إن تسوّل السوريين، ووقوفهم على أبواب الجمعيات الخيرية، ومعاناتهم الكاملة في الحياة في خارج سورية قد تحوّل الأمر إلى ظاهرة علينا ألا ننتظر من الغرباء الذين لجأنا إلى بلدانهم حلّها، على السوريين أن يحلوا مشكلة السوريين بأنفسهم.. وسورية بلد أصيل، وإن حكمتها أقذر الأنظمة.. فما زال السوري يُعرف بالأصالة.. حتى وإن عانى ونحن هنا لا نتخذ من المعاناة معرضاً لآلام الآخرين، وإنما مشكلة بحاجة إلى حل.. وكما كان لدى بعض السوريين المشكلة، كان لدى بعضهم الآخر الحل..

 

فذات مرة وأنا أمشي في شوارع اسطنبول، استوقفتني امرأة سورية في نهاية الأربعينات من عمرها، تعرض عليَّ وتلحّ أن أشتري منها "ثياب الصلاة" التي خاطتها بنفسها، لأنها بحاجة إلى المال من أجل زوجها المريض.. أعجبت بهذا النموذج السوري الأصيل الذي وصل إلى المال دون أن يمدّ يده ويحني رأسه.. كانت أعمالها تضاهي ما ينتجه معمل خياطة كامل.. هذه المرأة التي لم تنتظر رجلاً يعمل ويعطيها، بل بادرت وصنعت من هواية أو رغبة لها، عملاً كاملاً ومصدر رزق لها ولعائلتها ولإعالة عائلتها.. لم تكن بالتأكيد هذه المرأة هي الوحيدة التي تكسب لقمة عيشها بيدها، إلا أنّها بالتأكيد النموذج الذي يجب تعميمه، وبمساعدة أصحاب رؤوس الأموال.

 

الشعب السوري شعب مبدع وفي وسعه أن يخترع من "الحبة قبة" ولكن على المبدأ الإيجابي.. كون ما يعاني منه السوريون اليوم هو نقص رؤوس الأموال وإعراض أصحابها عن تمويل مشاريع فعالة قد تنقذ عشرات العوائل من دائرة الفقر التي ينحدر إليها أي شعب كُتب عليه التهجير..

 

إن خير ما يفعله أصحاب رؤوس الأموال اليوم هو أن يتعاونوا في افتتاح بنك لمن يملك الدافعية من السوريين وحتى من غيرهم من أجل قروض لمشاريع صغيرة لا تكلف الكثير من رأس المال، لكنها تعود بالربح على أصحابها.. من أجل سورية حضارية

في بنجلاديش في السبعينات، حلّت الحرب والمجاعة والفقر على الشعب البنجلاديشي فانحدر إلى دوامة من الفقر كان أحد أهم من أنقذهم منها هو البروفسور محمد يونس.. الذي رأى امرأة تصنع كراسي ملوّنة من الخيزران، إلا أن أرباحها تذهب هباء في تسديد الفوائد والقروض للتاجر الذي أقرضها.. وما كان من محمد يونس إلا أن أسس مشروع "بنك الفقراء أو بنك جرامين" وهو بنك يمنح القروض عن طريق التمويل الخارجي أو مال محمد يونس الخاص، ويكون هذا القرض بدون أي ضمانات مالية للفقراء الذين يملكون الدافعية لإدارة مشروع ذاتي صغير لا يكلف الكثير من المال إلا أنه يدر من الأرباح ما تربأ بصاحبها عن أن يمد يده للآخرين.. وتخرجه بالنتيجة من دائرة الفقر التي وجد نفسه فيها لأي سبب كان..

 

بنك المشاريع الصغيرة للسوريين

إن خير ما يفعله أصحاب رؤوس الأموال اليوم من أجل الخروج بالسوريين من دائرة المعاناة الحياتية المفروضة عليهم قسراً ومن أجل انهاء الطوابير الموجودة على أبواب الجمعيات الخيرية، ومن أجل أن يكف الأطفال عن التسوّل والعمل في المصانع وأن يعودوا إلى مقاعد الدراسة.. هو أن يتعاونوا في افتتاح بنك لمن يملك الدافعية من السوريين وحتى من غيرهم من أجل قروض لمشاريع صغيرة لا تكلف الكثير من رأس المال، لكنها تعود بالربح على أصحابها.. من أجل سورية حضارية.. هذه هي الخطوة الأولى بعيداً عن الموت، قريباً من الحياة. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.