ليستْ أحسنُ القَصص منا ببعيد، وليسَ حالُ يوسُفَ عليه السلام عنّا بغريب في أيامنا هذه، شبابٌ جامعيٌّ فتيٌّ يلاقي ما لاقاه نبيُّ الله من مساومةٍ على حقٍّ يملكُه ليُنتزع منه انتزاعًا، على أبسطِ الحقوق يلاحقون، ويمنعون من توظيف هذا الحق بل يُجرَّمون به ويُدانون، وتصدرُ في حقِّهم أحكامٌ تعسفيَّة، لكبح جماح إبداعاتهم، إذ إنهم سلكوا طريق الطامح الباحث عن شغفه في تطوير وبناء أمته وتصدُّر ركب الحضارة، ليصطدموا بحواجز الاضطهاد وسُدود تنغيص العيش، ليُقايضوا على حُريَّتهم، على لقمة عيشهم، بل وحتى على حريَّة ولقمة عيش من يحبون ولأصلابهم ينتمون.
أبناء الشعب الفلسطينيِّ ليسوا حديثي عهدٍ بالسجون، ولا حِرمانهم من كثير من حقوقهم ومساومتهم عليها مقابل أثمانٍ باهظة يدفعونها، ولكنَّ التسلَّط الشرس على اعتقال الشباب الجامعيِّ أمرٌ يجب الإشارة إليه بشكلٍ خاص. |
بلا اتهامات واضحة وبإدانات مجحفة ومماطلات ملتوية، شبابٌ جامعيٌّ فلسطينيٌّ يلاقي هذا المصير في مختلف جامعات الوطن، يُحرمون من مقاعدهم الدراسية، من ممارسة حياتهم الأكاديمية، من الصاحب والزميل، من الأسرة والعائلة، من الزوجة والمخطوبة، أصبحتْ صورهم تملأ جدران منازلهم فالقلب لا يطيق ألا يراهم، وسيرتهم حديث الصباح والمساء فالروح تَزهقُ بعدًا عنهم، وهذا حالهم في الجامعة، تُفتقدُ ضحكاتُهم، بشاشةُ وجوههم، مداعبتهم لزملائهم، وكأنَّ مقاعد الدراسة خاليةٌ تشتكي فراقهم..
هم المثقفون، الفاعلون، والناشطون ولهم في حياة كثير من الطلاب بصمة إبداعٍ وتفانٍ، معروفون بحبهم وانتمائهم لدينهم ووطنهم، بحرصهم على نشر الوعي ومحاربة الجهالة، على ضرب المثال في الشخصية العاملة ذات النزعة القيادية البنَّاءة، لم يتخذوا الجامعات أماكن لهوٍ أو لعب، ولم يحصروها على التحصيل الأكاديميِّ فحسب، بل جعلوها نقطة انطلاق نحو مستقبل مشرق واعد بآمال وطموحات، فكانوا مناراتٍ يستهدى به، وأصحاب سيرة طيِّبةٍ عطِرة.
في أقبية التحقيق وظلام السجون وعتمتِها يقبعُ الكثيرُ من الشباب الجامعيّ، يعيشون ظروفًا صعبة، ويقاسون مرارة الحرمان من رسم مستقبل واضح المعالم، يبدؤون به حياتهم الخاصة ويؤسسون به كينونتهم، ويقاسي أهلوهم مصيرًا مُشابهًا من تحمل نفقات دراستهم وعبء غياباتهم المتكررة عن جامعاتهم، وحسرة التأخر في الدراسة وانتظار التخرُّج، فلا يكاد يشرف فصلٌ على نهايته حتى يتمَّ اعتقاله ليضيع كل ما عاناه وقاساه خلال فصله سُدًى، فما كان من صحبهم وزملائهم إلا أن يُطْلقوا وَسْمَ "هاشتاج" التهمة حِيازةُ عقل، في تعبير واضحٍ عن أن اعتقالهم يأتي تضييقًا على الفكر وحصره في نطاقٍ ضيِّق، وأنَّ الفكر أصبحَ عدوًّا رئيسًا لهذا الاحتلال، فيحاول جاهدًا خنقَ عُنفوان الشباب المتصاعد وبثَّ الرذيلة والفسوق في أوساط الشباب، ليجد الشباب أصحاب العقول والمبدأ والإيمان الراسخ عثرةً وصخرةً صلبةً في طريقه، بنشرهم للعلم والثقافة والفكر المتزن الحريص على البناء والرفعة، فيقوم بدوره بالانقضاض على أحلامهم وطموحاتهم، على أفكارهم وإبداعاتهم.
ليس أبناء الشعب الفلسطينيِّ حديثي عهدٍ بالسجون، ولا حِرمانهم من كثير من حقوقهم ومساومتهم عليها مقابل أثمانٍ باهظة يدفعونها، ولكنَّ التسلَّط الشرس على اعتقال الشباب الجامعيِّ أمرٌ يجب الإشارة إليه بشكلٍ خاص، إذ إنَّ المرحلة الجامعية تشكل همزة وصل بين تشريع التحرير والحريات وتنفيذها عمليًا على أرض الواقع، فلا شكَّ أن الشباب هم عمادُ أيِّ أمة وقوامُ نهضتها ونهوضها، فهم يملكون طاقةً كبيرة للتغيير والإصلاح ونفسًا طويلًا على الشدائد والصعاب، فحوربت عقولهم بشتى الوسائل وكأنها أسلحةٌ رشاشة، تنثر رشاقتها على مواضع الجهل والظلمة لتُحيلها نورًا وهدى، وإنَّه لأقلُّ الواجب أن نخبر هذا العالم عن هؤلاء الأبطال ونفخرَ بهم، ولعلَّ على الجامعات أن تستحدث وسامَ شرفٍ يُعطى لهؤلاء الطلبة مكتوبًا عليه: حِيازةُ عقل!
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.