شعار قسم مدونات

هل يصبح التعليم المنزلي طوق نجاة؟

Blogs-mother
في الخامسة من عمري عندما ذهبت إلى المدرسة سألوني: ماذا تريد أن تصبح عندما تكبر؟ فكتبت: أنا أريد أن أصبح سعيدا. فقالوا لي: أنت لم تفهم السؤال. فقلت لهم إنهم لم يفهموا الحياة… هذا ما قاله جون لينون ليختصر إشكالية الفهم لطبيعة التعليم المطلوب اليوم.
  
ربما عجزت أنظمتنا التعليمية عن إشباع الحاجات الفردية والإنسانية والاجتماعية للطلبة، فركزت على الجانب التعليمي الأكاديمي والتحصيل المدرسي والامتحان وعوامل التقييم المقيدة على حساب الجوانب التربوية والقيمية وتنمية الشخصية وإكسابها المهارات اللازمة لمواجهة مشكلات الحياة، فكانت النتيجة أفرادا قلقين، متشككين، غير قادرين على إدارة أدوارهم المتعددة في الحياة، وربما تعساء.
  
كان دور المدرسة سابقا مهما للغاية، خاصة مع انتشار الأمية ومحدودية مصادر التعلم، إذ كان يعول على نجاح العملية التعليمية على المعلم وحده باعتباره محور العملية التعليمية، ورغم ذلك نجح المعلم في السابق نسبيا في تخريج جيل متسلح بالعلم والإيمان، يجيد القراءة والكتابة، بالإضافة إلى دوره الرئيسي التربوي الذي كان يمارسه من خلال غرس القيم والفضائل. اختلفت الأمور الآن كثيرا عن السابق، فتراجعت نسب الأمية وانتشر التعليم في المجتمعات العربية، بحيث من النادر أن تجد أسرة لم يحظى أفرادها بدرجة مقبولة من التعليم، فالأهل قادرون اليوم على تعليم أبنائهم أساسيات التعليم من قراءة وكتابة وعلوم مختلفة.
  
وعلى الرغم من الحداثة والتطور وانتشار الوسائل والتقنيات التي تدعم العملية التعلمية الحديثة، فإن التعليم تراجع في العديد من الدول العربية، وتجلى ذلك في الضعف الواضح لدى الطلبة في القراءة والكتابة والتعبير، بالإضافة إلى افتقادهم إلى العديد من المهارات الحياتية المهمة، ما ساهم في تخريج طلبة لا يمتلكون الحد الأدنى من المهارات الكافية التي تساعدهم على الإندماج في الحياة والعمل. كما أنهم ربما يفتقدون روح الإبداع والابتكار؛ والأهم من ذلك افتقاد البعض منهم إلى القيم التربوية المكتسبة، مثل تحمل المسؤولية واحترام الآخر والإخلاص والأمانة والصبر والشجاعة.. وربما تداخلت عوامل عدة وتسببت في ما وصل إليه تعليمنا اليوم من ضعف واضح انعكس سلبا على المخرجات التعليمية، منها التقنية والحداثة المرتبطة بانتشار الإنترنت وطبيعة التواصل الاجتماعي والضغوط المتعددة وطبيعة المناهج وخصائص المعلمين والمتعلمين، بالإضافة إلى تركيز السياسات التعليمية على التحصيل والتقييم المتمثلة في الامتحان على حساب عملية التعلم وجودته.
 
أصبح التعلم في متناول الجميع، ما يدعونا إلى الاهتمام بالمهارات المكتسبة والإبداع والقيم الإضافية التي يضيفها التعليم النظامي في المدارس
أصبح التعلم في متناول الجميع، ما يدعونا إلى الاهتمام بالمهارات المكتسبة والإبداع والقيم الإضافية التي يضيفها التعليم النظامي في المدارس
 

وقد دفع هذا البعضَ إلى التساؤل عن جدوى ذهاب الطلبة إلى المدارس إن كانوا لن يكتسبوا مهارات وخبرات جديدة تزيد من فرص نجاحهم في المستقبل وتؤهلهم مستقبلا لخوض غمار الحياة والنجاح فيها في هذا العصر المتطور، فباتت تطرق مسامعنا بعض المفاهيم الجديدة المرتبطة، مثل مفهوم التعليم المنزلي، وهو خيار تعليمي يسمح للآباء بتعليم أولادهم في المنزل، بدل ذهابهم إلى المدرسة. وقد أتيح هذا النوع من التعليم بالفعل في الولايات المتحدة، حيث لا يقل عدد الأطفال الذين يتعلمون منزليًا عن مليون ونصف، ومنها انتشر في بلدان عدة في العالم، وربما وُجد لعدة اعتبارات، منها الخوف والحرص على الأبناء والرغبة في إطلاق قدرات الأطفال وإبداعاتهم، ما تقيّده المدرسة بما تفرضه من قوانين صارمة وبمحدودية الفرص التي تقدمها، وهذا يشير إلى أنه حتى في الدول المتقدمة هناك إشكاليات تعليمية تدرس وتوضع لها الحلول بما يتفق مع هذه البيئات والأهداف التي وضعت من أجلها.

  
لم يعد الحصول على المعلومة اليوم، في عصر التقنية وثورة الإنترنت، بالأمر العسير أو المدهش، فباتت دروس الرياضيات واللغات والعلوم المختلفة تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي وتفرد لها صفحات متخصصة، بالإضافة إلى كثير من الدروس التعليمية المصورة التي تشرح المناهج وتبسطها وتوفر الأشرطة السمعية والأقراص المدمجة.
  
وربما نجح التعليم الإلكتروني في تحويل التعليم من الأسلوب التقليدي المتمثل في المحاضرة والتلقين، الذي ما زال متبعا في العديد من المدارس العربية إلى التعلم التفاعلي، الذي ينمّي المهارات والإبداع والابتكار والتجديد والتنويع، بالإضافة إلى ميزة مهمة وهي تحقيق المتعة والترفيه والتعلم في آن واحد، إذ يستطيع المتعلم التعلم حسب قدرته واستطاعته ووقته المتاح وخبراته ومهاراته السابقة؛ والمهم أنه يتم في جو آمن بعيدا عن الخوف والتوتر والقلق المصاحب لعملية التعلم، وربما بعيدا عن التقريع والتهديد، فأصبح التعلم في متناول الجميع، ما يدعونا إلى الاهتمام بالمهارات المكتسبة والقيم الإضافية التي يضيفها التعليم النظامي في المدارس، بالإضافة إلى إتقان القراءة والكتابة باعتبارهما أساسيات التعلم.
  

لسنا نبالغ إذا قلنا إن خلف كل طالب مبدع مدرسة عظيمة وأسرة عظيمة، واليوم أصبح دور المدرسة تربويا بالدرجة الأولى وتحفيزيا وتوجيهيا بالدرجة الثانية
لسنا نبالغ إذا قلنا إن خلف كل طالب مبدع مدرسة عظيمة وأسرة عظيمة، واليوم أصبح دور المدرسة تربويا بالدرجة الأولى وتحفيزيا وتوجيهيا بالدرجة الثانية
 

وبالرغم من المزايا العديدة للتعليم الإلكتروني والتعليم عن بعد وغيره من المفاهيم المرتبطة، فإنه لا شيء يغني عن بناء العلاقات الحقيقية على أرض الواقع والتواصل الإنساني والمقابلة التي تتيح المعرفة الحقيقية والتقييم الواقعي للأفراد، والتي يتم من خلالها تبادل المشاعر الإيجابية والخبرات التعليمية والتربوية، وحتى الضغوط المدرسية المعقولة والقلق الموضوعي عوامل إيجابية تحفز الطالب على التعلم والتحدي والنجاح. والحقيقة أنه من الخطأ تعميم التجربة على بيئاتنا العربية قبل دراسة مدى صلاحيتها، خاصة في ظل وجود بعض المفاهيم الثقافية الخاطئة المنوطة بالبيئات العربية، ومنها ما يتعلق بتعليم الفتيات وإشكاليات تتعلق ببعض القيم الاجتماعية والشخصية، مثل الانضباط والمتابعة والحرص وتحمل المسؤولية؛ وإن كانت قد تمثل حلا لبعض الحالات الفردية الاستثنائية.

 
إن الفرد الذي نطمح إليه اليوم هو الفرد المتوازن المؤهل بالمهارات الحياتية الضرورية، من تواصل وتخطيط وعمل ضمن فريق، حتى يستطيع إدارة جوانب حياته المختلفة ويكون قادرا على النجاح في تكوين أسرة وقادرا على التواصل الإنساني وقادر على التعلم المستمر والتكيف مع مواقف الحياة المتجددة وحل المشكلات التي تعترضه بعقلانية وموضوعية وقادرا على اتخاذ القرارات المناسبة، لاسيما القرارات المهنية منها، واختيار مهنة والنجاح والتطور فيها بحيث يكون لحياته معنى وقيمة ودور في نهضة مجتمعه.
 
ولسنا نبالغ إذا قلنا إن خلف كل طالب مبدع مدرسة عظيمة وأسرة عظيمة. واليوم أصبح دور المدرسة تربويا بالدرجة الأولى وتحفيزيا وتوجيهيا بالدرجة الثانية ولا يمكن إغفال دورها العظيم في نهضة الأمة، إلى جانب دورالأسرة، فالمدرسة كما تعلمنا في صغرنا كانت ولا تزال بيتَنا الثاني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.