شعار قسم مدونات

الجحيم ما بين الكتاب وواقع العرب

Blogs- syria

كانت المرة الأولى التي أنظرُ فيها إلى الواقع بنظرة العقل البحت المنفصل بشكلٍ كليٍ وكامل عن القلب الإنساني، العقل الذي يقومُ باتخاذ القرارات دونَ الالتفات إلى القلب والمشاعر والضمير.. يهتمُ فقط بالأرقام والحسابات والبيانات والمنطق.. منطق الأرقام والرسوم التوضيحية، منطق عالِم الجينات في رواية الجحيم لدان براون "الجحيم" والذي يرى بأنَّ التضخم السكاني أمرٌ لا تُحمدُ عقباه، واخترعَ وباءاً للقضاء على ثلث سكان الأرض لحل هذه المشكلة كما يرى.

   

الحل إذن "القضاء على ثلث السكان لحل مشكلة بقية سكان الكوكب" في بلادِ العرب حصلَ العكس تماماً، تم القضاء على السكان في البلدان وحلَّ البلاءُ المتواصل بالبقية. ولطالما بدت لي مأساة الحرب الحقيقية تتجلى في الأشلاء التي تُستخرج بصعوبةٍ بالغةٍ من تحتِ الأنقاض حتى لا تكاد تميزها عن حطام المباني وذرات التراب، وفي أعداد الشهداء المتزايدة بشكل مخيف يومياً، في الدماء التي تنسكبُ من أعالي الجبال ويصلُ عبقُها حتى أخفضِ نقطةٍ في هذه البلاد، تجلت المأساة في القتل، في الموت، في خروجِ أمانة الروح من أمانة الجسد وعودتها إلى بارئها.

     

لكن تبينَ لي أنَ الموتى في هذه المأساة هم المحظوظونَ حقاً، هم من انتهت حياتهم ولن يرَوا التراكمات التي ستتركها الحرب لأجيالٍ وأجيال كثرة بعدهم.. مشكلة الحرب لا تتجلى فعلياً في عدد القتلى ولا في أنهُر الدماء المنسكبة، بل في عدد الأسر التي تُركت ورائهم بلا راعٍ، الأب الذي استشهدَ تركَ وراءه عائلة من أفرادٍ كثر بحاحة للرعاية. ومشكلة الحرب تتجلى في أعداد اللاجئين الذينَ سيلاحقهم شبحَ اللجوء والخوف من الترحيل وطابور الكوبونات الغذائية والمساعدات حتى نهاية حياتهم.

    

وتتجلى هذه الحرب في العائلات التي لجأت إلى البلاد "الأقل حظاً"، وبسبب فقر المعيشة وحاجة المال التي تطاردُ الإنسان ليلَ نهار، بسبب أفواه مالكي المنازل التي تطالب بالأجرة، وبينَ أفواه الصغار التي تطالب بالطعام، وبينَ أقدام الأب المبتورة أو يديه المصابة بطلقة رصاص أو روحه التي غابت عن الكان أصلاً، يحرمُ الأولادُ من متابعة أحلامهم وملاحقة التعليم الذي يبدو في مرحلة الفقر الشديد رفاهيةً لا داعٍ لها ولا هدفَ منها.

 

الحربُ تمسكُ الأجيال التي يجب أن تعيشَ في المستقبل من أعناقهم وتعودُ بهم في الزمنِ إلى الوراء
الحربُ تمسكُ الأجيال التي يجب أن تعيشَ في المستقبل من أعناقهم وتعودُ بهم في الزمنِ إلى الوراء
 

عملتُ مؤخراً مع عدد من العائلات السورية التي استقرت في الأردن، البعضُ جاءَ في بداية الحرب السورية، والبعض الآخر جاءَ مؤخراً، وبعضهم خرجَ بعدَ أن أرى من أصنافِ العذابِ ما لا يستطيع عقلٌ أن يتخيل أو جسدٌ أن يحتمل.. وخالطتُ في هذه الفترة أكثر من 80 عائلة، وفي كل بيت وجدتُ نقمة الحرب تتجلى في عمالة الأطفال، تتجلى في زواج القاصرات، تتجلى في الحرمان من الطفولة، تتجلى في الفقر الذي دفعَهم إلى حرمان جيل كامل من التعليم، وسلب المستقبل من بينِ أيديهم.

 

في هذه المنازل، أو "أشباه" المنازل المتداعية المحطمة التي لا تصلحُ للعيش البشري رأيتُ أطفالاً تعرضوا للاغتصاب، أطفالاً لم يتجاوزوا العاشرة من العمر هم أرباب بيوت لعائلات بأكملها، رأيتُ فتيات لا تكادُ ملامح الأنوثة تتضح على أجاسدهن زوجات وأمهات، رأيتُ أباً يعاني من الأمراض النفسية والجسدية بعدَما شهدهُ في سجونِ التعذيب، رأيتُ أمهاتٍ يترُكنَ أطفالاً أكبرهم في الثامنة من العمر لساعاتٍ طويلة كل يوم بحثاً عن العمل، رأيتُ أفواهً تنتظرُ الطعام، وأجسادًا تنتظرُ الدواء، وأرواحاً تنتظرُ الفرج.. عائلات نصفها قتل وآخرون اعتقلوا وآخرونَ لا يستطيعونَ الخروجَ من المخيمات، في البيتِ الواحد ترى كل المآسي التي تركتها الحرب في قلوب هؤلاء.

 

الحربُ لا تؤذي المنازل والأجساد والشوارع فحسب، لا تدمر الجدران وتسكبُ الدماء وتسلبُ الأرواح فقط، لا تُحلُ الدمار بالماديات فقط.. الحربُ تدمرُ أجيالاً كاملة، تقضي على مستقبل جيل كامل من الأطفال وتحرمهم من كل شيء، من الحصول على تعليم ومتابعة صحية وغذاء ولعب وحياة صحية حقيقية.. الحربُ تمسكُ الأجيال التي يجب أن تعيشَ في المستقبل من أعناقهم وتعودُ بهم في الزمنِ إلى الوراء.. تعيدُ أجيالاً وبلداناً بأكملها إلى الوراء.. مأساة الحرب الحقيقية، تتجلى ما بعدَ الحرب، الجحيم الحقيقي هو ما بعدَ الحرب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.