شعار قسم مدونات

الإمام فخر الدين الرازي.. وضرورة الاعتبار له

مدونات - تاريخ علماء عالم شيخ قراءة

قبل أيّام جمعني لقاءٌ مع بعض الأصدقاء المثقّفين، وكأيّ دردشة خفيفة تجمع بين الشباب، بدأ كل واحد منّا يعطي ما عنده ممّا يراه موضوع اللحظة، حتى أتى دوري في الكلام. وكان من بين ما ذكرته: أنّنا أمة محترفة في بخس وتهميش تراث المتقدّمين؛ خاصة إذا كانوا ممّن جمعوا بين علمي المنقول والمعقول، بل، ومشاركين في علوم شتّى كالطب والهندسة والحساب والهيئة والفلك وغيرها.

لمحتُ حالة الاندهاش مِن بعض الحضور، حتى سألني أحدهم: ألستَ ترى نفسك متأخّرٌ زمنيًا، بينما نحن نتكلّم عن رهانات العصر، وأنت تحدّثنا عن شخصيات أصبحت في خبر كان؟! قلت له: يا عزيزي، ليس بالضرورة أن يكون استصحاب شخصية إسلامية تميزت بالموسوعية هو استغراق في الماضي، بل قد يكون هذا الاستصحاب هو وسيلة يستلهم منها العلماء والباحثون وطلاب العلم الحاملين والحالمين تدفع بهم نحو يقظة فكرية حيّة على حدّ سواء. ثمّ ما لبث هذا الصديق أن طلب مني نموذجًا متميّزا.

 

كان الرازي عالما في التفسير والكلام والفلسفة والأصول والفقه والبلاغة ومشارك في علوم أخرى كالفلك والطب والحساب والهندسة والهيئة، حتى توافد عليه الكثير من الأعلام وطلاب العلم في عصره

فقلت لهم: لعلّي لا أجانب الصواب إن قلت: أنّ من الشخصيات الإسلامية التي وقعت في هذا التّهميش، قصدَا كان أو غير مقصود هو الإمام فخر الدين الرازي مجدد القرن السادس الهجري. فاعترض عليّ صديق آخر بقوله: ما فائدة الاعتبار له؟ قلت: الاعتبار له فوائد عظيمة، أهمّها إعادة قيمته العلمية والفلسفية والكلامية والأصولية ومحاولة محاكاتها على مستجدات العصر والتي من شأنها تخدم متطلبات المرحلة. أما أدناها هو التذكير بأن للأمة عباقرة أفذاذٌ لابد حتى يكون مشعلًا يقتدى به. فما كان من هذا الصديق إلا أن طلب مني الدخول مباشرة في المطلوب، معرّفًا بهذه الشخصية الإسلامية الفريدة من نوعها.

أولا: من هو الإمام فخر الدين الرازي؟
باختصار، هو الإمام أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي الرازي الملقب بفخر الدين الرازي ولد 544هـ،1150م وتوفي 606هـ، 1210م. ولد في الري بطبرستان. أخذ العلم عن كبار علماء عصره منهم والده ضياء الدين، حتى برع في علوم شتّى.

كان الرازي عالما في التفسير والكلام والفلسفة والأصول والفقه والبلاغة ومشارك في علوم أخرى كالفلك والطب والحساب والهندسة والهيئة، حتى توافد عليه الكثير من الأعلام وطلاب العلم في عصره. ترك الإمام مؤلفات كثيرة ومتنوعة في مختلف العلوم والمعارف كلها تدل على غزارة علمه واتّقاد فكره وتنوع معارفه. تخرّج على يديه كبار العلماء زين الدين الكشي والقطب المصري، رفه. وقيل أنه قد مات مسمومًا. ثمّ إذا أردت التوسّع قليلًا في مؤلفات هذا الإمام البحر والتعرف عليه وعلى شخصيته أكثر، يمكنك مراجعة كتاب: "مؤلفات فخر الدين الرازي" للدكتور طه جابر العلواني ـ رحمه الله ـ.

فخر الدين الرازي وبقية العلوم
لم يكن الإمام الرازي تلك الشخصية المهتمة بعلوم المنقول والمعقول فحسب، وإنما كانت له مشاركات عجيبة في بقية المجالات العلمية. ومن أهم منجزاته، أنه كان من الأوائل الذين قالوا بنظرية الورود في الضوء من المبصرات إلى العين، وفي كيفية الإبصار. وقد فسر فخر الدين الرازي حدوث الصوت في كتابه "المباحث الشرقية" بسببين: الأول منهما قريب يحدث من صدم ف سكون فصدم فسكون. والثاني منهما بعيد ويحدث من عاملين: القرع، القلع.

ثمّ من اكتشافات الإمام، الفرق بين قوة الصدمة والقوة الثابتة، فالأولى زمنها قصير، والثانية زمنها طويل. كما اكتشف أن الأجسام كلما كانت أعظم كانت قوتها أقوى، وزمان فعلها أقصر، وأن الأجسام كلما كانت أعظم كان ميلها إلى أحيازها الطبيعية أقوى وكان قبولها للميل القسري أضعف.

ضرورة استحضار شخصية مثل الرازي في وقتنا المعاصر ليس استحضارًا اجتراريًا كما قد يُعتَقَد، وإنما هو من باب المحاكاة والاعتبار
ضرورة استحضار شخصية مثل الرازي في وقتنا المعاصر ليس استحضارًا اجتراريًا كما قد يُعتَقَد، وإنما هو من باب المحاكاة والاعتبار
 

شرح القانون الثالث من قوانين الحركة الذي يقول: لكل فعل رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه. وقد شارك فخر الدين الرازي العالم العربي المسلم ابن ملكا البغدادي في القول بأن الحلقة المتزنة بتأثير قوتين متساويتين تقع تحت تأثير فعل ومقاومة أي أن هناك فعلا ورد فعل متساويين في المقدار ومتضادان في الاتجاه يؤديان إلى حالة الاتزان.

وكان الإمام يجعل الطب والفراسة (أو علم النفس) من العلم الطبيعي، ويؤمن بالصلة الوثيقة بينهما، وأثبت في تفسيره كروية الأرض، وثبات الشمس ودوران الأرض وأكثر آرائه في العلوم الطبيعية نقلها عن كتب ابن سينا، وهي موجودة في كتبه الفلسفية كالمباحث المشرقية والملخص، كما تظهر آثارها ومظاهر الطبيعة والطب في تفسيره الكبير في تحليل ما يتعلق بالأرض والسماء والإنسان، والمعادن والنبات والحيوان والآثار وبيان منافعها. 

فضرورة استحضار شخصية مثل الرازي في وقتنا المعاصر ليس استحضارًا اجتراريًا كما قد يُعتَقَد، وإنما هو من باب المحاكاة والاعتبار، فالإمام نفسه لم تكن شخصيته مقلّدة لسابقها، تجترّ المعارف ويضعها في مؤلفاته المشهورة وفقط، وإنما كانت نقّادة، نقدَا بنّاء، وهدّامة، هدم لأجل بناء صرح معرفي جديد.

الأمة اليوم بحاجة إلى شخصيات مثل الإمام الرازي، شخصية تجمع بين سعة العبارة وصحة الذهن وسعة الاطلاع والحافظة المستوعبة من جهة، وبين النقد البناء والغربلة مع لا يتماشى مع مقتضيات العصر كما كان هو عليه في عصره. وقد يقول قائل: عصر الموسوعية انتهى. فنقول: كلام العجزة، المثبطين لعزائم الغير، والمتواكلين، عصر الموسوعية لم ينتهي ولن ينتهي، لأن الموسوعية من الأفضال الإلهية، وأفضال الله تعالى لا تتناهى مادامت السماوات والأرض.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.