شعار قسم مدونات

سلطة الإدارة في مواجهة قوة القانون

blogs-قانون

إن الإدارة هي بؤرة المؤسسات داخل أجهزة الدولة وهندستها التنظيمية، وهناك من اعتبرها دولة داخل الدولة (د. أمينة جبران في مؤلفها المتحد العلمي في المادة الإدارية)، فهي كالظل الذي يرافقك كلما عزمت على قضاء مصالحك المدنية داخل شتى مناحي الحياة الاجتماعية إلى أن تغادر دار الفناء، تاركا شهادة الوفاة كآخر حجة واقعية توثيقية تفيد موت الشخص الطبيعي المرتفق واستمرار سلطوية وامتداد الشخص المعنوي العام (السلطة الإدارية).

والسلطة عموما كامتياز هي مفهوم زئبقي يتخذ أشكالا متعددة وفقا لمتغيرات الزمان والمكان، وبديهي أن الإدارة تملك السلطة ودائما ما تسعى للحفاظ عليها من أجل الإخضاع والهيمنة، وهو ما يفرض تدخل القانون الضابط، ومن ثم تبرز العلاقة الجدلية بين السلطة والقانون. فلمن تكون السيادة أمام هذه المعادلة الصعبة التي حيرت منظري فلسفة القانون بمختلف مشاربهم على مر العصور..؟

فإذا ما نظرنا مثلا، إلى حق الملكية أو التملك، نجده من الحقوق الكونية المقدسة والمقررة للأفراد داخل مختلف الأنساق الاجتماعية العربية والغربية، وكرست له حماية دستورية وقانونية، إلا أن هذه الحماية التقنينية تظل نسبية القوة القانونية عندما تصطدم بهاجس المنفعة العامة التي يصعب تحديد مفهومها الملتبس ورسم حدودها وتمظهراتها ووعائها إلا عند وعي ومخيلة الإدارة كسلطة تنفيذ وتقرير.

السلطة المطلقة لأي مؤسسة أو أي جهاز إداري داخل الدولة من شأنها أن تغرى بإساءة استعمالها دون تدخل القانون الضابط والمقيد حتى قيل (أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة)
السلطة المطلقة لأي مؤسسة أو أي جهاز إداري داخل الدولة من شأنها أن تغرى بإساءة استعمالها دون تدخل القانون الضابط والمقيد حتى قيل (أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة)
 

غير أن السلطة القضائية ممثلة في قاضي المشروعية الإدارية كما أفضل تسميته خلافا للقب القاضي الإداري، والذي قد يخيل إلى ذهن اللامهتم بالعلوم القانونية أنه قاضي تابع وحامي للإدارة أو قاضي الإدارة، وهو ما قد يتعارض مع الأنموذج الغائي والوجودي لهذا القاضي الحامل للواء المشروعية دون أي ميل أو تحيز أو تأثر وبما يتلاءم مع واجب التطبيق العادل للقانون في ظاهره وروحه.

 

قد حاولت (هذه السلطة القضائية في صفة قاضي المشروعية الإدارية) من خلال بعض الأقضية المحدودة، تبني نظريات قضائية تستهدف ضبط سلطات الإدارة التقديرية الملتفة حولها العلة الغائية "المنفعة العامة" وإخضاعها للمشروعية حتى لا تكون مشتطة في إراداتها وتصرفاتها المضرة بحقوق الأفراد والجماعات.

لكن سرعان ما تم العزوف القضائي وتراجعه كرونولوجيا وبنيويا عن إحياء هذه النظريات القضائية التي من شأنها أن تقوي الحماية القانونية لحق التملك في مواجهة ظاهرة التسلط الإداري أو التجاوز في توظيف السلطة المرتكزة على اعتبارات المصلحة العامة التي قد تقبل التأويل (هيرمينوطيقياً) من حيث الجوهر والبواعث؛ (كنظرية الغلو في التقدير ونظرية الموازنة بين المنافع والمضار لسنة 1971 والمستنسخة بالتقليد من اجتهادات الرقابة القضائية الفرنسية مع العلم أن الموسوعة المقاصدية للشريعة السمحاء وقواعدها الفقهية تزخر بالعديد من الأحكام والنظريات الفقهية الثابتة والرصينة والتي يمكن استنباطها مرجعيا لتكييفها في نوازل نزع الملكية والاحتلال المؤقت للعقارات والاعتداءات المادية الناتجة عن سلطوية الإدارة، من قبيل مثلا: قاعدة الضرر يزال، الضرورات تقدر بقدرها، وقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح…).

وفي جميع الأحوال، تبقى نظرية الموازنة أو الملائمة وغيرها من النظريات القضائية الأخرى الكولونيالية التوظيف، سلاحا مهما لحماية مبدأ المشروعية الذي تقوم عليه الدولة القانونية الحديثة من خلال الدور الرقابي الذي يمارسه قاضي المشروعية الإدارية لكبح جماح السلطة التقديرية والحيلولة دون تحولها إلى سلطة متعسفة وفقا للحقيقة الفلسفية الراسخة التي أقرها منتسكيو في مؤلفه التنظيري روح الشرائع (بأن السلطة توقف السلطة).

ميكانيزم مجابهة خطر التسلط الإداري في العصر الحديث وخاصة في براديكمات المجتمعات العربية الانتقالية، هو السير نحو إعادة إنتاج وعي إداري رشيد داخل أذهان رجل الإدارة

وإذا كان من امتيازات السلطة العامة للإدارة كشخص معنوي عام أنها تمتلك إرادة انفرادية ملزمة من خلال إصدار القرارات التنفيذية الفردية والتنظيمية وتملك حق التنفيذ الجبري المباشر أو بالإكراه، إلى جانب صلاحية نزع الأملاك والاحتلال المؤقت لها وتسخير القوة العمومية وسلطة فرض الرسوم الضريبية واحتوائها لشروط استثنائية غير مألوفة في التعاقدات التي تتم بين الأشخاص الطبيعيين أو الخواص إلى جانب سلطة توقيع العقوبات التأديبية من تنقيلات وعزل وتوقيف وتوبيخ… فإنه وحتى إذا ما أقيمت الدعاوى القضائية في مواجهة تعسفاتها وتجاوزاتها تبقى غير متكافئة الأطراف مما يجعل دور الفقه أساسيا في توجيه القضاء على نحو يعزز سمو القانون ويرسخ مبادئ المساواة أمامه وأمام القرارات الإدارية ويضمن الاعتدال في توزيع الأعباء العامة والاستفادة من خدمات المرافق العامة بمنطق ديموقراطي وليس بيروقراطي.

فقد أجمع معظم المفكرون في مختلف العصور على أن السلطة المطلقة لأي مؤسسة أو أي جهاز إداري داخل الدولة من شأنها أن تغرى بإساءة استعمالها دون تدخل القانون الضابط والمقيد حتى قيل (أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة) وأن (للسلطة نشوة تعبث بالرؤوس)، ولقد أدرك هذا المعنى شاعر العرب الحكيم أبو الطيب المتنبي حيث يقول:

وَالظّلمُ من شِيَمِ النّفوسِ فإن تجدْ ذا عِفّةٍ فَلِعِلّةٍ لا يَظْلِمُ

وهكذا فإن ميكانيزم مجابهة خطر التسلط الإداري في العصر الحديث وخاصة في براديكمات المجتمعات العربية الانتقالية، هو السير نحو إعادة إنتاج وعي إداري رشيد داخل أذهان رجل الإدارة والتخلص من الإيديولوجيات التراكمية في تكوينه العقلي التدبيري المتحجر، وذلك من خلال تفكيك نظم الولاء للتعسف والتسيد والتسلط وتأسيس فكر إداري يحترم المشروعية وسلطان القانون كشكل من أشكال التنظيم الإداري الديمقراطي الرشيد.

وإذا كان الاتجاه الذي يقر بأن السلطة التقديرية ضرورية لفاعلية العمل الإداري المتشعب والمعقد أحيانا بدافع تحقيق النفع العام، فهو رهين في نظرنا بتوسيع سلطات قاضي المشروعية في الرقابة على وسائل عمل الإدارة وتصرفاتها ما دامت الوسائل تسقط بسقوط المقاصد، الشيء الذي يستلزم إخضاعها للنظام القانوني السائد في مختلف قواعده ومبادئه الملزمة للجميع وفقا لمضمون الفصل 6 والفصل 118 من الدستور المغربي كأنموذج دستوراني حديث لما بعد أزمة الربيع العربي.

يقول العالم الأنثروبولوجي الفرنسي
يقول العالم الأنثروبولوجي الفرنسي "لويس دومون": ليست ماهية الحياة البشرية في صراع الجميع ضد الجميع، ولا يمكن أن تكون النظرية السياسية نظرية نفوذ وتسلط: وإنما نظرية السلطة الشرعية
 

كما أنه إذا كان الفقهاء في القانون الإداري يعتبرون أن حرية البرلمان في التشريع أبعد من أن تقاس على حرية الإدارة في التنفيذ، فالقيد على سلطات الإدارة يجب أن يبقى هو الأصل، ومجالها محدود بالوقوف عند إرادة المشرع، وأهدافها محددة باستمرار، وقد صيغت نظرية الانحراف الإدارية مبدئيا على أساس منع إساءة استعمال السلطة، بتسخير امتيازات السلطة العامة لتحقيق أهداف شخصية لا علاقة لها بغايات الصالح العام. (النظرية العامة للقرارات الادارية – سليمان الطماوي).

ومثلما لا يكفي القول اليوم بأن انفلات تصرفات الإدارة وتجاوزاتها من سياج القانون ورقابة القضاء أضحى غير مقبولا، بل إن مجرد الاقتصار على تشخيص الأعراض المرضية للإدارة في الدول المغاربية خاصة دون اقتران ذلك بنهج حلول رسمية ملموسة تستند على مفهوم القيادة الإدارية الرشيدة يظل هو الأخر غير ذي جدوى ما لم يتم استئصال الأورام التسلطية ومعالجتها من الأسوأ إلى الأحسن.

ونختم بالقول بأن الإنسان لا يعترف بالسلطة إلا إذا استندت إلى معنى يقبل به، فعلى حد تعبير العالم الأنثروبولوجي الفرنسي "لويس دومون": ليست ماهية الحياة البشرية في صراع الجميع ضد الجميع، ولا يمكن أن تكون النظرية السياسية نظرية نفوذ وتسلط: وإنما نظرية السلطة الشرعية".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.