شعار قسم مدونات

أفكار انتحارية

blogs - man boy alone education reading

نظرت في عينيها المنطفأتين المليئتين بالقنوط وغياب الأمل وكره الحياة، والمليئتين كذلك بالخذلان والعتاب والوحدة، لم أرها خائرة القوى والعزيمة كاليوم، ولكنها -الحمد لله- نجت من محاولة انتحار فاشلة.
 
كلما لمحتُ الموت ينظر إلي أو يقترب مني، أو كلما مللت الحياة واشتقت أنا إليه أحصي ما يدعوني للبقاء. أكثر ما يجعلني أتمسك بالحياة ليس أهلي وأصحابي، أو عملي أو دراستي، إنما هي الأسئلة! في رأسي أسئلة كثيرة تجذبني للحياة وتمد جذوري فيها، لا أحب أن أموت قبل أن أجاب عنها. أسئلة عن الحياة وما قبلها وما بعدها، أسئلة عن نفسي التي كلما فهمت منها زاوية انكشفت لي زوايا خلفها، أسئلة عن كل شيء، أسئلة فلسفية عظيمة، وأسئلة فضولية صغيرة، أخاف أن أموت بها.
 
كيف أنهي حياتي التي لم أعرف حقيقتها بعد، ولم أعرف طبيعة علاقتي بها؟ كيف أترك حياة لم أفهمها، ولم أعرف سبب وجودي فيها؟ وكيف أذهب إلى حياة أجهلها أو أجهل مقامي فيها؟ كيف أموت وفي صدري كل تلك الأسئلة؟ يرعبني أن أتخذ قرارًا عظيمًا ثم أكتشف خطئي، والجهل سبب الخطأ، وما دمت لم أفهم بعد ولم أعرف إجابات لأسئلتي لن أقرر إنهاء حياتي، لأن قراري هذا قد يبدو خطأً يوم لا يمكن التصحيح، وأبدو أنا متعجلًا يوم لا يمكنني التراجع!
 
أتعلمين؟ لن أصل أبدًا لإجابات كاملة، وهذا لا ييئسني، بل يثير رغبة الاستمرار فيّ، سأظل أبحث عن إجابات حتى يداهمني الموت، وحينها سأتمنى أن أعيش حيوات أخرى لأصل إلى إجابات أعمق وأكمل! ولو افترضنا أنني علمت الإجابات، سأكون أول من فهم الحياة، وسأحياها حينئذٍ كما يجب أن تعاش.

 

طالما حيرني هل المنتحر شجاع لأنه رفض أن يحيا حياة رتيبة فارغة المعنى، أم جبان لأنه ضعف عن مواجهة مشكلاته، وعجز عن إصلاح حياته؟
طالما حيرني هل المنتحر شجاع لأنه رفض أن يحيا حياة رتيبة فارغة المعنى، أم جبان لأنه ضعف عن مواجهة مشكلاته، وعجز عن إصلاح حياته؟

 
لن أتحدث عن غايات الحياة الإيمانية، ولا عن دورك في البشرية ومسؤوليتك الجمعية؛ فشعورنا بتلك الأهداف البعيدة أو العامة يكون صعبًا أحيانًا، ولكن الحياة بمعناها الشخصي الضيق: هي ما نشعر به. ألا تشعرين أحيانًا في لحظة إيمانية عظيمة، وأنتِ في محراب الصلاة أن الدنيا ونعيمها قد حيزت لكِ، وأن بقلبك سكينة وطمأنينة لو وزعت على مدينة في زمان حرب لوسعتهم، وأنك تودين لو دامت تلك الحالة إلى الأبد؟

 
ألا يشعر الحبيبان بالحياة إذا التقيا وتعانقا والتحما حتى يذهلان عن كل شيء سوى نفسيهما؛ فلا يرى أحدهما إلا عيني حبيبه، ولا يسمع إلا همسه، فيوقن أنه ما علم قبل هذا ما الحياة؟ ألم تلمسي يومًا جمالًا طبيعيًا أو فنّيًا مسموعًا أو مشاهدًا أو مكتوبًا فدخلتِ فيه أو دخل هو فيك حتى أصبحتِ جزءًا من اللوحة أو حرفًا في القصيدة أو نغمة في اللحن أو شخصية في الرواية، وودتِ لو توقف الزمان هنا؟ تلك لحظات تستحق أن نحياها ونحيا لها ونصبر لأجلها، نعيش حياتنا بسطحية فلا نشعر بقيمتها، ولا نذوق حقيقتها، حتى إذا غصنا في معنى صغيرٍ منها، وارتوينا منه حتى تضلعنا؛ شعرنا به، ووصلنا إلى قمة إحساسنا بالحياة. أخشى أن تنكري أنك عشتِ شيئًا من هذا، فيكون ذلك في جملة جهلك وأسئلتك الحائرة التي يجب أنن تعيشي من أجلها!

  

طالما حيرني هل المنتحر شجاع لأنه رفض أن يحيا حياة رتيبة فارغة المعنى، أم جبان لأنه ضعف عن مواجهة مشكلاته، وعجز عن إصلاح حياته؟

 
وظني أنه الاثنان معًا: كان شجاعًا أولًا فتمرد على حياته، ولكنه لم يتمم هذه الشجاعة للنهاية، رفض حياته ولكنه جبُن عن استمرار المحاولة وانهزم في معركة الأمل؛ ولذلك فالمنتحر عندي ليس بطلًا شهيدا، ولا شيطانًا مريدًا، وإنما هو في منزلة بينهما، ارتقى عن السفهاء ورفض حياتهم التي هي كحياة كالبهائم، وقصُر عن الذين اختاروا حياتهم وصنعوها وقاتلوا من أجلها، فهو عندي إلى العذر أقرب من العذل، وإلى الاهتمام لا الاتهام.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.