شعار قسم مدونات

صراع النبوءات.. من ابن خلدون إلى مكيافلي

مدونات - مكيافيلي نيكولو

في وضع أشبه ما يكون بحالة العمى المطلق لدى العرب عن المسير في أي اتجاه، إذ انسدت أمامهم آفاق التغيير والحركة بعد سنين عجاف من الدمار والخراب الذي حل بالعمران والإنسان، وأمام مرأى عالَم يترقب وقتا تنحل فيه أسس سلامه واستقراره، ويوشك أن يفصح عن مكامن الصراع التي بدأت بوادرها تظهر للعلن، في وضع كهذا وجب أن ننظر للحالة الراهنة من زاوية تصلها بمسبباتها ومذكياته، فنُري كيف أن هذه الحالة عَرَض لذلك الجوهر، وأن ما يدفعها هو صراع في مستويات متداخلة فلسفية وتاريخية وسياسية، وهو صراع سنظهره في تسلسل معين نرصد له هذه المقالات.
 
وهدف هذه المقالات هو سرد متصل لتحول مهم في النظرة للتاريخ ابتدأ من ابن خلدون ونظريته في العصبية والدولة، ووصفه لشكل الحركة التاريخية وهيئتها، ثم ما نشأ بعدها من نظرية تتحدى هذه النظرية، وسيوصلنا هذا العرض بتدرجه إلى ما آل إليه هذا الصراع بين هاتين النظريتين، وكيف تساوق هذا الصراع في كل مراحله مع أحوال التاريخ الحديث وصراعاته، وكيف تنشأ عن هذا الصراع رؤى القوى الفاعلة فيه.
   
وسنبحث في هذه المقالات ما سميناه "صراع النبوءات" ونعني بالنبوءات هنا تلك الحالات التي تمتد فيها الأمم امتدادا زمانيا في مطامحها ورؤاها، ويترجم هذا الامتداد ترجمة مكانية في التوسع الجغرافي لهذه النبوءات، ونحن نبين في هذا البحث تلك الصلة التي لا تنفك بين النظرة الفلسفية للتاريخ "التاريخ الشمولي" وبين طبيعة النبوءة التي تنشأ عن هذه النظرة، وسنبني على ذلك القول بوجود نظرتين للتاريخ تؤسسان للصراع العالمي بين الأمم في مستواه الفلسفي والجيوسياسي واللغوي، و تؤسسان فيما بعد لنبوءاتهم على اختلافها. ونحن لسنا معنيين هنا بالبحث في النبوءات نفسها، بل في فاعليتها التاريخية التي لا تنكر، وفي استمرار حضورها في التاريخ، وإن اختلفت طبيعتها بحسب الزمان والمكان.
   
نظرية القوة والحركة التاريخية الخلدونية :

تمثال ابن خلدون في قلب العاصمة التونسية (1332-1406م) (مواقع التواصل)
تمثال ابن خلدون في قلب العاصمة التونسية (1332-1406م) (مواقع التواصل)

 

تُعلِمنا الهندسةُ أن مدارَها على توجيه قوى الطبيعة وترويضها لخدمة أغراض الإنسان، وهذه القوى الموصوفة في الفيزياء قوى مندفعة لا تتوقف إلا أمام مانع أو كابح، وإن هي انتفت موانعُها بقيت في اندفاعها، فالجسم الساقط بفعل وزنه سقوطا حرا يبقى كذلك -نظريا- في تسارعه حتى يصطدم بالأرض، والنار المتوهجة تبقى تأكل ما هو أمامها حتى تفنيه عن آخره. غير أن اندفاع القوى الطبيعية هذه محدود بالطبيعة نفسها، فلا تتصور الحركة الدائمة في الطبيعة، لأن هذه الحركة لا بد وأن تعترضها كوابح وموانع تحد منها، كذلك لا تُتصوَّر طاقة لا تنتهي، لأنها محدودة بما تمدها به الطبيعة. ويقع في الميدان الذي أنا مشتغل به في الهندسة قوة البخار التي إن تولدت في ظروف معينة انبجست مندفعة بلا هوادة، وشأنُ المهندس الحاذق معها أن يرقب اندفاعها هذا ويقيسه فيَضَعَ في اتجاهه الموانع والكوابح التي تجعله يستفيد من حركتها وحرارتها ليوظفهما فيما يريد.

 

لا تختلف هذه الحقيقة في ميدان التاريخ، فقد وصف ابن خلدون في مقدمته القوى التي تحرك التاريخ الإنساني، ووضع نظرية للحركة التاريخية وفق هذه القوى، ومؤدَّى نظريته أن حركة الحضارات في نهوضها ناشئةٌ عن قوة العصبية في المجتمع البدوي، وهي قوة متولدة من الطبيعة، وهذه القوة هي التي تدفع البشر من البداوة إلى الحضارة وتنقلهم إليها نقلا حتميا متى تهيأ لهذه العصبية أن تفوق في قوتها قوة الدولة، غير أن هذه العصبية سرعان ما تجد في الحضارة كوابح ومعترضات تطوَع قوتها لخدمة غاياتها ومطالبها، والحضارة "بوصفها كوابح وموانع للعصبية" تفلَ بذلك من قوتها وتوهن من اندفاعها وتُهدفُها للفناء، إلى أن تقع في يد عصبية أخرى أو أمة أخرى، وهكذا يصبح التداول بين الأمم والحضارات سنَة مطَردة تدور مع الزمان دورات ودورات. غير أن هذه القوى التاريخية شأنَ القوى الفيزيائية محدودة بما تمدُّها به الطبيعة أيضا، فدوام الدورات الحضارية هذه بدوام تشكَل العصبيات واندفاعها.

 
وعلى نظرية ابن خلدون وقانونه نفسيهما تهيأ للحضارة الغربية الحديثة أن تنهض من ركام الامبراطورية الرومانية المتداعية حين دخلت قبائل الشمال المتوحشة في المسيحية واستحدثت لأمم أوروبا عصبية فتية امتلكت بها زمام الحضارة ودالت لها الدولة وحصل بها الاستبدال، غير أن هذه الحضارة أرادت أن تغتنم قوتها وظهورها على غيرها من الحضارات بأن تبحث في شأن دوام هيمنتها ونهضتها، وتنظر في الكيفية التي تمنع بها زوالها وظهور حضارة أخرى عليها، وكان من لوازم سعيها هذا البحثَ في إمكان تجاوز قوانين القوة والحركة الخلدونية، تلك القوانين التي تديم حالة الاستبدال التي تهدد خلود أي حضارة.
 
مكيافلي وكبح الدورة الحضارية:

 المفكر والفيلسوف الإيطالي نيكولو مكيافيللي (1469-1527م)  (مواقع التواصل)
 المفكر والفيلسوف الإيطالي نيكولو مكيافيللي (1469-1527م)  (مواقع التواصل)

 

كان مكيافلي أول من اضطلع بهذه المهمة، حين أخذ يفكر في شأن الدولة الرومانية والسبب الذي به بقيت قوية فتية مدة طويلة من الزمن تقرب من ستة قرون، وهو أمر لم يكن ابن خلدون بحسب قوانينه ليتصوره، وقد دأب مكيافلي على البحث في تاريخ الرومان من خلال التاريخ الذي كتبه المؤرخ الروماني تيتوس ليفي، وخرج من ذلك بأطروحات مهمة خلص منها إلى أن الرومان استحدثوا نظاما سياسيا مركبا تسند القوى فيه بعضها البعض، وتمنع القوى الفاعلة فيه بعضها من أن يتغول على بعض، وتساهم قوانينه في الحفاظ على شكيمة المجتمع وقوته أن تخترمها الحضارة ويوهنها الترف.

 
كان ما قدمه مكيافلي في أطروحاته وصفة سياسية لاستغلال قوة الدولة "العصبية" أحسن استغلال، بحيث تبقى قوية فتية لا تفل من حدها متطلبات الحضارة "الترف والقهر"، ولمنع هذه القوة في الوقت نفسه من التغول والتفرد بالسلطة. وكأنه بهذا قدَّم وصفة لكبح الدورة الحضارة وتأخيرها.
 
كان مكيافلي مؤمنا بقوانين القوة والحركة الخلدونية ومسلّما بها كحتمية لا يمكن أن تتخلف، لكن ما اقترحه كان كيفية استغلال تلك القوى فيما يفيد رسوخ الدولة ودوامها. وقد بحث ابن خلدون بدوره في إمكانية إطالة عمر الدول، لكنه جعل طول عمرها وقصره تابعا لقوة العصبية وكثرتها، بينما بحث مكيافلي في إمكانية إطالة عمر الدولة بغض النظر عن قوة العصبية التي أنشأتها وكثرَتها. وبحسب مصطلحات الهندسة، فقد كان بحث ابن خلدون بحثا في "القوة المحركة"، و بحث مكيافلي بحثا في "الكفاءة".

 
لكن القصة لم تنته عند مكيافلي…

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.