شعار قسم مدونات

عن ربيعٍ ضُرِبَ في مقتل.

سوريا
في بلداننا، انقلبت كل الموازين التي تقبل العقل والمنطق، كنا قد ملكنا مصيرنا وإرادتنا الشعبية، فجأة انطبقت علينا نظرية العالم السيكولوجي "أبراهام ماسلاو" : الحاجيات البهيمية أولا، ثم المبادئ والقيم ثانيا، وكأننا نسينا أننا نحتاج للأكل والشرب والنوم وممارسة الحياة الطبيعية. من كان يظن أننا كنا نحتاج لقيمة القيم كما نادى بها المفكر المهدي المنجرة، لربما كان من الافضل أن نطالب بالخبزوالشعير! أو لربما كان من الافضل أن نعيش ونأكل العيش! أكنا اَسوياء عندما كنا نهتف بأعلى صوت يسقط يسقط النظام ؟

لماذا بهذه الغباوة صدقنا كذبا بغسل أدمغتنا صباح مساء؟ لماذا صرنا على نقيض ما ضحينا به؟ تجرأنا ، خرجنا من بيوتنا، غامرنا ببصيص حياتنا، انتحرنا باجسادنا أمام الرصاص، طاردونا بأبشع الاوصاف، غرروا بنا بأموال وأحلام رخيصة، لكننا لم ننصع لهم، خرجنا وقاومنا حتى اخرجناهم من جحورهم، حينذاك سمونا شعوبا ثائرة امام الظلم والطغيان، لكن بعد ست سنوات هل تغيرنا ؟ هل صار الحلم كابوسا مزعجا، يحتاج الى خرطوش ينهي قصته عند اقرب اسفلت منسي.
ماذا عن "مصر الثورة" ؟

بعد ست سنوات من الربيع والخريف، فصول عاشتها شعوبنا بلهفة، بتعطش نحو قيم مشروعة لإرادتها الحرة، لكنها انكسرت، ومن الوعود يأست، فاستسلمت وأُجبرت على الركوع للماضي.

خرجنا من حاراتنا ، لملمنا أشلاء أرواحنا، هناك. في ميدان الحرية، ميدان التحرير، صرخنا بأعلى صوت "عيش، حرية، عدالة اجتماعية ، كرامة انسانية". قالوا لنا مطالبكم مشروعة، لكن في حدود، قلنا لهم فليسقط الرئيس، فليسقط النظام، وسقط الرئيس، وبقي النظام، واستجمع أنفاساه، ولملم شظاياه المتناثرة هنا وهناك، ورجعنا لبيوتنا، وأكلنا العيش مسموما.

ماذا عن "ليبيا الجديدة"؟
خرجنا و الأخضر يحاصرنا في كل مكان، في المنزل، في المكتب، عند البقال، في الكتب المدرسية، في الحمام، في الأسواق، وفي عقولنا غلاف مسيج بأسوار خضراء. قاومنا الطاغية، بكل ما أوتي لنا من عزيمة وقوة وسلاح، وأنهينا ترهاته المجنونة. بعد الحرية، قلنا فلنبدأ صفحة جديدة، عنوانها دولة الحق و القانون والحريات، لا شرقية ولاغربية فيها، بل فيها الوحدة الوطنية، لكن السلاح مازال بين أيدينا، نمارس به هواية القتال بيننا، حتى يجد لكل واحد منا موطنا داخل الوطن، يعيش فيه لوحده بعيدا عن الآخر.

ماذا عن "سوريا الأبية"؟
خرجنا والدبابة تشتهي القتال، كنا ننادي فقط "الله، سورية، حرية وبس" حرية وكفانا قتالا، طبيب العيون أعمته السلطة ليرانا نحن المسالمين، مجرد "ارهابيين" قاتلناه، لكن نغمة "الارهاب" ظلت ترقص وترقص حتى استساغها العالم، فكان "الإرهاب إرهابا" و جاؤوا إلينا، وخربوا أحلامنا، وقبلما كنا نقاتل أصحاب الدبابات والطائرات، صرنا بعد ذلك نقاوم بالصاع صاعين أصحاب الدبابات و مريدوا البغذادي، أمام هذا المشهد ، ضعنا، و تهنا وسط معارك اختلط فيها الحابل بالنابل، ومع استمرار النزيف، هناك منا من لجأ لما وراء البحار، فأكمل مشواره السلمي، وهناك من قاتل مع المتطرفين، وهناك من مات في صمت، تحت أنقاض مملكته الصغيرة.

ماذا عن "اليمن السعيد"؟
خرجنا والرئيس يقول لنا "فاتكم القطار"، قلنا له لا ، أنت من فاتتك الفرصة، ناضلنا لحياة أفضل، في بلد "سعيد" ينخر عظامه الجهل و الفقر و المرض، وهلم مأساة، أليس من حقنا ان نطالب بالحرية؟ ونعيش عيشة سوية كريمة، لكن على مايبدو أن أحلامنا أجهضت، فلا مجال لتلك القيم وأنت في بلد يتعرض ليل نهار لتدخلات و توجيهات وأجندات خارجة عن إرادتنا الشعبية.

"تونس الياسمين"
وسط هذا الدخان، مازالت بقعة ضوء شارد، تقاوم، تنازع شهوة الماضي. مازالت تونس تحاول بكل ماتملك من الغالي والنفيس، أن تناضل لدولة مدنية ، علمانية، ليبرالية تقبل الكل مهما كانت انتماءاته، تونس انصاعت للتوافق، وتخلى أبناؤها عن كل اشكال الانانية والتفرد في المصير. تونس اختارت مصيرها، أي نعم قد طال انتظارها، أي نعم مهددة بالرجوع لبراثن عهد المخلوع، أي نعم هناك حفرة من الشك يمكن أن تسقط فيها البلاد نحو غياهب الديكتاتورية، لكن التونسيون ليسوا كما في السابق.

بعد ست سنوات من الربيع و الخريف، فصول عاشتها شعوبنا بلهفة، بتعطش نحو قيم مشروعة لإرادتها الحرة، لكنها انكسرت ومن الوعود يأست، فاستسلمت وأُجبرت على الركوع للماضي والتطرف، والأكثر من ذلك استسلمت لسؤال الخبز ومتاهة المعيشة الضنكة.

وهنا يطرح السؤال، وكأنه قلق يحتاج لأسبرين، لا لجواب بنعم أم لا، سؤال : هل نستحق العيش الكريم و الحرية و الكرامة و العدالة لأوطاننا؟ سؤال قد تجيب عنه الاجيال القادمة، مادام المنطق منطقا، والعقل متنورا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.