شعار قسم مدونات

الارتداد عن الدولة الوطنية

الجامعة العربية

تفككت الدولة الوطنية العربية بشكل مريع، وأصبح الرهان بعد ذلك على استعادتها ضرباً من الخيال، بل صار الرهان على بقائها غير مضمون بالمرة.

فلمَ وصلنا الى هذا المآل؟ بعد كل الأحلام العريضة التي رسمتها الأنظمة الثورية العربية؟ لمَ وصلنا لاستبدال الدولة بأشكال سلطوية، هي اقرب الى مفهوم ما قبل نشوء الدولة الحديثة؟،لمَ صار الحديث عن بقاء الأوطان العربية بجغرافيتها الحالية، مجرد أمنية؟، وصار التفكك الجغرافي مسألة وقت لا أكثر!

اعتقد أن الكثير من الصحف سودت، وأن حبراً كثيراً أُسيل في محاولة للإجابة عن هذه التساؤلات المشروعة، فانهيار أنظمة تحديثية  قامعة انتج بعدها فوضى، أي أننا إزاء بديل من ذات النسيج لا غيره، وبدلاً من قمع منظم صرنا امام حالة قمع منفلت!

وانتهينا إلى البحث من جديد عن مفهوم الدولة التحديثية ! أي الدولة التي تقود المجتمع لبناء ذاتهِ عبر إنشاء المؤسسات الحديثة (أجهزة تعليم متطورة، انظمة قضائية مستقلة، مؤسسات خدمة عامة، ومؤسسات تمثيل اجتماعي متعددة) وفوق ذلك نظام قانوني ضامن للمواطنة كحق أساس.

بدلاً من ذلك كله، صارت الدول العربية التي شهدت ثورات الربيع العربي ومن قبلها العراق، تترنح تحت اسئلة كي يفترض ان تحسم منذ زمن طويل، كاسئلة الهوية الوطنية والهويات الفرعية، الحقوق الاجتماعية، الاعتراف بالتنوع الاثني – الديني، السيادة القانونية على القوى الاجتماعية، او خضوع جميع القوى لسلطة شرعية واحدة متساوية.

في تونس حدث سيناريو شبيه بمصر باستثناء ضعف الدولة العميقة التي تركها بن علي، عن تلك التي تركها حسني مبارك في مصر

بل صارت هذه الدولة أمام سؤال أهم، هو شكل النموذج الذي يجب أن يعاد بناؤه في هذه البلدان بحيث يكون مقبولاً من قبل فئات متنوعة من المجتمع. في بعض البلدان التي طالها التغيير الثوري كمصر مثالاً نجح النظام السابق أو ما يسميه المصريون " الدولة العميقة" من استعادة نفسه من جديد، وعادت ذات الآليات التي رفضت في ثورة الشباب لتعيد إنتاج نفسها في ثورة مضادة.

و في تونس حدث سيناريو شبيه بمصر باستثناء ضعف الدولة العميقة التي تركها بن علي، عن تلك التي تركها حسني مبارك في مصر. وفي سوريا ولبيبا واليمن صرنا امام تفجير لكل الدول السابقة، تفكيك لمؤسساتها ونهوض لقوى ما قبل الدولة، حيث باتت الجماعات الدينية والقبلية تنظر على أنها البديل الموضوعي للنظام الديكتاتوري في حال سقوطهِ، بل وأصحبت كما في الحالة الليبية تلتقي مع قوى الدولة العميقة السابقة في أحداث أكبر قدر من الفوضى لعدم ايصال المجتمع لمرحلة الدولة.

هنا في العراق، كان البديل الأكثر وضوحا للنظام الديكتاتوري الصدامي هو الفوضى، نهوض قوى دينية – قومية أخذت على عاتقها تفكيك مؤسسات الدولة الوطنية، مؤسسة تتلو الأخرى فمِن حل الجيش العراقي إلى تدمير المؤسسات القضائية والتعليمية، وانتهاء بإطلاق يد قوى مسلحة بديلة عن الجيش النظامي في لحظة يمكن وصفها بأننا فقدنا وإلى الأبد فكرة استعادة بناء الدولة التي يمكن تحتكر العنف من جهة، وأن تقنن استخدامه وفق إطار شرعي من جهة أخرى.

وصار حلم استعادة بناء الدولة في العراق وفي البلدان العربية الأخرى، واحدا من أكثر الأحلام البعيدة عن الواقع، وصارت القوى البديلة أو ما أسميها قوى الارتداد الاجتماعي عن مشروع التحديث هي الحل المتوفر على الأقل في ظل الفوضى الراهنة!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.