شعار قسم مدونات

الـ"لا" بين ثقافة الاختلاف وقداسة التمرد

blogs - pal
ثقيلة الظّل هي تلك الـ"نعم" العملاقة التي تظلّل فضاءاتنا وتحاصر نفوسنا في سراديب النمطية، وتحشرها في زوايا الرضوخ الضيقة، الـ"نعم" صارت سماءنا التي تحجب عنّا شفافية الاختلاف وعمق التفرد، ولنا منها مظلات صغيرة نحتمي بها من رذاذ التميز أو من وابل المخالفة والمغايرة، وبهذا تحوّلت من مجرد مواقف عابرة إلى فلسفة تآكل بها وجودنا، وصرنا مجرد حشود من "نعم" صغيرة تمشي على الأرض لا تهزّها خصوصية المواقف، ولا إلزاميات الأخلاق، ولا مقتضيات الإبداع، ولا حتى ضرورات الوجود الإنساني التي تقتضي إبطالها في العديد من الحالات، إن لم أقل في أغلبها.
نعم في الفايسبوك، نعم في التويتر، نعم في الجامعات، نعم في الملتقيات، نعم في المناقشات ، أوافقك، أؤيدك، أنا معك، نعم، نعم، نعم.. في كلّ مكان وعلى كلّ لسان يتكرّر هذا الملل بصفة روتينية بين مختلف الفئات، اجتماعيّة كانت أو معرفية أو سياسية (في المجموعات الضيقة طبعاً)، وعلى كل الأرضيات الواقعية والافتراضية، الجميع كونوا حلقات مغلقة خاصة بهم يمارسون فيها هوايتهم في التناغم والتوافق و"التماثل" أيضاً، لا لشيء إلا لتجنّب لعنة الـ"لا" وما يمكن أن تجلبه من وبال وبلبال، ذلك لأنها مجرّد كفر بواح، فالمرء هنا لا يمتلك حق الاختلاف "فإما أن تكون معي وإما ألا تكون"، ليس ثمة خيار آخر، ولأنّها مسألة وجودية بحتة تحتمل الشطب النهائي للمخالف، فالجميع في الأغلب يبتلعون شرارة الرفض ويواربون بمظلات الموافقة، أو التظاهر بالموافقة، على الأقل في مساحات الاختلاف الضيقة، وذلك لاعتبارات كثيرة جداً، أما في مساحات الخلاف الأخرى بكافة مستوياتها، فالحرب هي سيّدة الموقف.

الـ"لا" هي صرخة الأنبياء ومبدأ الثوار والمتمردين والصفعة التي تتعاقب على وجوه الطغاة والمستبدين، إنها أقدارهم حينما يبالغون في استدرار الـ "نعم" من أجساد المظلومين والمستضعفين

هل هي أزمة نفسيّة؟ نعم! هل هي أزمة فكرية معرفية؟ أيضاً نعم. مشكلتنا تكمن بالأساس في تصوّراتنا عن هذا العالم، كيف نرتّب عناصره في أذهاننا قيمياً ووظيفياً، كيف نحددّ العلائق التي تربط بين مكوناته، وفي الأغلب نحن نقيّم محيطنا بمعيار التضاد لا بمقياس التكامل وتعايش الأضداد، ونأخذ بالتعريف السلبي للأشياء "هذا الشيء ما ليس عليه الآخر"، وفي هذا المنظور تركيز على نقاط الاختلاف باعتبارها المقومات التي ترتكز عليها هوية الأشياء والأشخاص قبل النظر في نقاط التشابه، فالسني مثلا يركز على النقاط التي تفرق بينه وبين الشيعي دون الأخذ بالاعتبار أنهما من دين واحد. والتركيز على هذه الفروقات يشعل شرارة العداء بين الفريقين، نفس الشيء بين الإسلاميين والعلمانيين، واللبراليين والاشتراكيين، وغيرهم.. وهكذا يتكرس منطق "أنت لست معي إذن أنت ضدي"، يدعمه التضخّم الكبير في الأنا إلى جانب توخّي الأسلوب المعياري في التعامل مع الاختلاف "أنا على حق، وأنت على خطأ".

الـ"لا" جوهر الاستمرار الإنساني..
إزاء بلادة الـ"نعم" تقف اللا بعنفوانها، بقوّتها، بجرأتها، تنتصب معترضة جحافل الملل ملوّحة بلامها وألفها لتوقف مهازل المواربة والنفاق والتملق، إنها اليقين الكامن بين احتمالين، تأتي دوماً بضجيج ملفت يقلب كلّ المعادلات ويحرّك رتابة الهدوء الذي تخلفه الـ"نعم"، متمرّدة وصاخبة هي، تماما كما هي حازمة وفاصلة، يتدفق بين حرفيها شريط تاريخ البشرية، لأنها وحدها من تصنعه، فبها فقط تسقط حضارات، وبها تقوم، بها تولد نظريات وبها تُنقض، بها يعيش أناس وبها يموت آخرون، زعيمة التناقضات، وسيّدة الوجود الإنساني، فهي ميثاق الاختيار الذي خُصّ به الإنسان دون غيره من الكائنات، إنها الشق الآخر من الاختيار، لكنها في كلّ الأحوال الخيار الأصعب. 

وعدا هذا كلّه تبقى هذه الأداة بفلسفتها الممثل الوحيد والحصري للاختلاف بكافة أشكاله، وبذلك تبقى أيضاً ضماناً لاستمرارية الوجود الإنساني؛ لأنها مبعث التعددية والتنوع، فمنظور واحد لا يكفي لفهم هذا الكون، وثقافة واحدة أو فن واحد لا يفيان باحتياجات النفس الإنسانية، وفكر واحد لا يكفي لملء أغوار العقل البشري، هذا هو عالمنا يحتاج إلى وجود فسيفسائي للإحاطة به برمته وفهمه تمام الفهم. فالمبدأ إذاً مبدأ تكامل اللاءات والأضاد لا تطاحنها، إن الاختلاف يعني بالضرورة رؤية جديدة، فكرة جديدة، زاوية أخرى، عوالم مختلفة، إنها مرادف آخر للإضافة، للزيادة، وللإبداع بكل تجلياته.

الصراع والصدام هما شرارة الحراك الحضاري عبر التاريخ، وصديقتنا الـ "لا" هي الراعي الرسمي لذلك، فبموجب الصراعات والصدامات القائمة بين الكيانات البشرية مهما كان نوعها تتحرّك عجلة التاريخ، وتولد حركيات المجتمعات والأمم على كلّ الأصعدة. فأيّ حراك يمكن أن يكون في مجتمع متجانس لا اختلاف بين أفراده؟ 

الـ"لا" ليس كل إنسان مخوّل لرفعها وتحمّل مسؤوليتها، إنها الموقف الحاسم على حواف المصير: إما الانتصار وإما الموت

في هذا السياق أسوق نموذج منتديين كمثال بسيط، في الأول كانت الـ"نعم" نموذجية بين أعضائه حيث أن أغلبهم ينتمون لتيار فكري معين، في حين كان يتم التضييق على المخالفين في المشاركات وإدراج المواضيع، كان الجو في هذا المنتدى هادئاً ورتيباً، لأن أغلب الأعضاء يتشاركون نفس الرؤية ونفس الأفكار، وكان كلما دخل مخالف تسابقت جموع الـ نعم لمناقشته وإفحامه فينتهي افتراسه سريعاً، ثم تعود الأمور إلى الرتابة والملل من جديد. أما المنتدى الثاني فقد كان رواده من مشارب متنوعة، تجد فيه الإسلامي والعلماني الاشتراكي والليبرالي، القومي، السلفي، والإخواني، والجهادي، وحتى الملحد، ببساطة كانت تركيبته فسيفسائية بامتياز، وهذا ما أعطاه دفعاً قوياً جداً، فكان نشاطه لا يخبو أبداً، والنقاشات فيه تتدفق دون انقطاع، وهذا ما ضمن استمراريته إلى حدّ الساعة، في حين يرسل المنتدى الأول نزعه الأخير بجريرة الـ نعم.

أمُّ الثورية!
الـ "لا" هي صرخة الأنبياء، ومبدأ الثوار والمتمرّدين، إنها الصّفعة التي تتعاقب على وجوه الطغاة والمستبدين، إنّها أقدارهم حينما يبالغون في استدرار الـ نعم من أجساد المظلومين والمستضعفين، وهي بهذا الرقم الصعب و القضية الفارهة القداسة، فليس كلّ إنسان مخوّل لرفعها وتحمّل مسؤوليتها، إنها الموقف الحاسم على حواف المصير، إمّا الانتصار وإما الموت، حينما تثبت الأقلية أمام الاغلبية، وحين يصمت الجميع أو يهمسون بـ نعم مرغمين، بها أُسقط فراعنة العصور، وبها تكررت حرائق الأخدود، وبها رُفع الكثيرون على أكتاف التاريخ ولم يكونوا شيئا مذكوراً، إنها مسألة إباء تكمن في تفاصيلها جدلية الاستبداد والثورة حينما تحتدم، وهي مسألة نبل أيضاً، ففي أعماق أخدودها الثوري تشع القيمة الإنسانية بكلّ وهجها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.