شعار قسم مدونات

لعل الخوف سجن أكبر من السجن نفسه!

blogs - fear
 
"لعل الخوف سجن أكبر  من السجن نفسه!".. قالها وأطبق شفتيه اللتين أرهقهما السكون ولمحت في عينيه لمعة وردية ما رأيتها من قبل، قذف العبارة في وجهي وبعدها.. ضمني إليه.

 

كنت في انتظاره عند بوابة المطار، هو المهاجر منذ ثلاثين سنة بأحد الدول العربية، كان يومها عائدًا إلى أرض الوطن، الوطن الذي نبعت أحلامه فيه بين أزقة المدينة العتيقة وشوارع العاصمة الأنيقة لكنني لست متأكدة من هذا الوصف، فهو لم يعُد يعرف شيئا عن الوطن، وللتنقل بين أحيائه وشوارعه كان يلزمه دليل سياحي أو مرافق دائما.
 

لم يكن والدي جبانا كما اتهمته في سرّي سابقا، لكنّ أحلامه كانت كبيرة في زمن كان الآخرون يرونها أضغاثُ أحلام

فَقدَ اللحن في لهجته المعتادة واستبدلها بلهجات عديدة بين لكنة مصرية وأخرى خليجية وشامية وأحيانا هندية، لمْ أع حينها ماذا قَصد بجملته تلك؟ رغم أن كلمة السجن تثير فينا الماضي المؤلم، حتى هذه اللحظة فرحتُ بما جاد به القدرُ علي، كان أبي هنا.
 

هو لم يعش معي لحظات الفرح بالتخرج أو عندما كسرت رجلي أثناء مباراة كرة السلة أو حتى عندما أتى عيد الأضحى وتأخرنا عن ذبح الأضحية فانفجرت أمي يومها بالبكاء كطفلةِ العشر سنوات تتوق إلى حضن والدها المتوفى، لم يتمتع أبي بزرقة السماء ولا بنزهة الربيع بين الجبال ولا بمذاق التين الشوكي الذي يحبه كثيرا.
 

لم يجلس معي عند نهاية الشاطئ المحاذي للصخور السوداء الكبيرة نراقب البواخر وهي قادمة من جهة جنوب إسبانيا تُقلّ المهاجرين إلى المغرب، كلّ هذا حدث في وقت كان أبي يعمل عند "أبو نواف" في شركته كمحاسب، لم يكن يجمع المال قط، جُلّ همه أن يَدرس الإخوة الأربعة كي يتخرجوا ويهاجروا هم بدورهم إلى الولايات المتحدة.
 

وهو الذي كان يحمل عقدة الدراسة منذ خمسينيات القرن الماضي ويعتبر أن الدراسة هي طوق النجاة الوحيد على وجه الأرض، جرت العادة أن تتلاقفه أمواج الحياة الجائرة لم ينل قط ما يريد، أفصح لي مرّة أنه كان يحلم بدراسة الحقوق بجامعة السوربون لولا أن استوقفته الأصفار الكثيرة لفاتورة الدراسة بذاك البلد، ورغم الفاقة والحاجة في أيام شبابه كان يؤمن بالتغيير والعدل والحرية والكرامة الانسانية.
 

اعتنق أفكار الثوار والديمقراطية وحلم بالعدل والانصاف و الانسان، كتب شعارات الإلهام وانخرط في النضال، نزل مدوّنا ومصورا صحفيا إلى الميدان، هو الذي جرّه القلم إلى غيابات السجون كي يُعاد تكوينه من جديد كما روى لي مرّة، فبجرّة قلم وجد نفسه يُجرجر في أحد شوارع المدينة العتيقة، دخل السجن فلان ابن فلان وخرج منه بلا عنوان، اعتزل الكلام والنضال وترك التصوير والجدال، وامتهن الصمت واحترف الهروب، حزم أمتعته وهاجر!.
 

"لعل الخوف سجن أكبر من السجن نفسه" ما هو إلا شعار الضمير كان يعيش بداخله، ندمُ الرحيل ربما! أدركت معناه بعدما رحل والدي منذ عشر سنوات تقريبا، فمنذ اندلاع الثورات في البلدان العربية وأنا أتذكّره كل يوم، أكان محقا عندما غادر؟ هل كان يلزمه الوقوف بوجه المخزن وأباطرة الفساد وأن يتحمّل سيل الهراوات الذي لا يفرق بين الشباب والشيب.

 

ماذا لو اتُّهم بخيانة عظمى وحوكِم بالإعدام؟ أو أصبح أسيرا لدى داعش ذاك الزمان؟ كلها أسئلة جالت في خاطري لكن المفارقة العجيبة في الأمر أنه كان من جيل وأنا من جيل اخر إلا أن العقدة ذاتَها لم تنحل بعدُ والوضع على ما هو عليه.
 

هل اكتسب الشعب التركي هذه القوة عن خبرةِ انقلابات عسكرية سابقة أذاقته الفقر والحرمان والعودة إلى الوراء؟

لم يتغير شيء سوى الشكل واللباس وبنظري أصبح أسوأ، لم يكن والدي جبانا كما اتهمته في سرّي سابقا لكنّ أحلامه كانت كبيرة في زمن كان الاخرون يرونها أضغاثُ أحلام، إلا أنّه في لحظة ما وَصل إلى مفترق الطرق وكان عليه الرحيل، إنّه الخوف عندما يغيّر قاموس اللغة وخوفي أنا اليوم أن أصاحب الصمت وأمتهن الهجرة بلا عودة.
 

هذه الفكرة رافقتني لعشرة أعوام أو أكثر إلى أن استوقفتني ملحمة الشعب التركي الذي كسر معادلة الخوف والسجن لدي، إن اتحاده كأصابع اليد الواحدة واِلتفافهم حول قضية واحدة هو ما ضخ بداخلي طاقة الأمل من جديد، الحقيقة لم تشدني فكرة الانقلاب الفاشل أكثر مما شدتني فكرة اتحاد الشعب كالأعضاء في الجسد الواحد إذا شكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، فعندما يكون الشعب متحدا أي قضية يتبناها ستنجح حتما لا محالة.
 

ويبقى السؤال معلّقا هل اكتسب الشعب التركي هذه القوة عن خبرةِ انقلابات عسكرية سابقة أذاقته الفقر والحرمان والعودة إلى الوراء؟ أم أن الشعب اكتسب وعيا بعدما أن ازدهرت تركيا اقتصاديا وسياسيا فأخرجه من قمقم الخوف إلى أدراج الحرية والكرامة في الساحات والميادين وتحت عجلات سير الدبابات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.