شعار قسم مدونات

كنت شاهدة على "الدرس الشعبي التركي"

blogs turkey
كنت هنا في تركيا، وشهدت محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو/تموز، واختبرت الخوف والفرح والقلق والانتظار والالتباس والحذر ومشاعرا كثيرة، لكن أهم ما اختبرته وكنت شاهدة عليه هو الدرس التركي الشعبي.

أسكن في اسطنبول منذ 10 أشهر فقط، وما زلت أرى نفسي سائحة بها، لفرط تعددها وجمالها. تكتشف اليوم مكانا لتعثر غدا على آخر. وما زلت أظن أنني عابرة بين مزيج البشر فيها، اسطنبول لا يعمرها الأتراك فقط، في صف تعلم اللغة التركية، كمثال صغير، كان يدرس معي كوبي وسوري وألمانية وأمريكية، وتونسي وفلسطينية، وعراقي وفلسطيني من عرب الـ 48 يحمل قسرا الجواز الإسرائيلي، وتلك قصة أخرى ..

أعمل صحافية بقناة "TRT العربية" وكانت هدفا رئيسيا للانقلابيين. يوم الـ15 يوليو/تموز، كان دوامي نصف مسائي، بدأ في 13.30 وانتهى في الـ20.30. عند البوابة الرئيسية للقناة في منطقة "أولوس" كان لافتا وضع حاجز أمني عندها. كانوا رجال شرطة ممن نصادفهم بشكل يومي في كل مكان، ويبعث تواجدهم الإحساس بالأمان. استغربته، وقالت زميلتي "إجراءات أمنية، ربما ..".
 

على شاشة الهاتف تزاحمت الرسائل من العمل. طلب منا التوجه إلى القناة، الردود كانت تتوالى "قادمون"

ثلاث ساعات بعد ذلك، كان هاتفي يرن، ومديري يخبرني عن محاولة الانقلاب، واقتحام القناة وتوقف بث كافة قنوات التلفزيون الرسمي التركي. بقيت على تواصل مع كافة الزملاء، نطمئن على بعضنا البعض، ونتابع الأخبار. الأحداث كانت تتوالى، الإنقلابيون أذاعوا بيانا، وطائرات الـ"إف 16″ كانت تمشط السماء وتهز الأرض: هكذا يكون خوف الـ"إف 16″؟ كنت أتساءل وأتذكر أطفال سوريا، كم من أحلامهم أرعبتها أصواتها، وكم من غد أجهضه قصفها، وكم من ذاكرة ستظل تحفظ رعبها ..

ظهر الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان على قناة "سي إن إن ترك" كان بخير، ويطلب من الشعب أن يخرج إلى الشوارع والميادين لـ"يحمي الشرعية والديموقراطية" كما قال، وسمعت صوت جارتي من الطابق الثالث مع أطفالها، يتلون المناجاة التي بت أظنها رمزا في تركيا "يا الله .. بسم الله .. الله أكبر".

على شاشة الهاتف تزاحمت الرسائل من العمل. طلب منا التوجه إلى القناة، الردود كانت تتوالى "قادمون" لم يكن الدافع استجابة لأمر مدير أو مسؤول، بل كان حسا والتزاما مهنيا أولا، وكانت اللحظة التي لا ينفع فيها أن تظل في البيت بينما يتحرك التاريخ في الخارج.

تاريخ تركيا حافل بالانقلابات العسكرية، ودستور البلاد لم يسلم من تبعاتها، لكنني لم أكن في أي منها، وما رأيته لـ28 يوما يستحق أن يروى لأطفالي. إنه جزء من الصورة سيكمله أيضا غيري، ويرويه لجيل قادم.

شوارع تركيا منذ ليلة الـ15 يوليو/تموز وحتى 7أغسطس/آب، لم تفرغ من المواطنين والمقيمين أيضا. الميادين الكبرى كانت تغص بهم، وحول منصاتها ترفع شارة رابعة التركية وتعني: "علم واحد، وطن واحد، دولة واحدة، شعب واحد" وأعلام تركيا ترفع في كل مكان. حتى الباصات وعربات الميترو، كانت تبث داخليا، صور شهداء ليلة الانقلاب الفاشل، وصورا من الميادين للجماهير العريضة، وعندما أقول العريضة فأنا أعني ذلك حقا.

هنا دعوني أركز على الوجوه التي ألهمتني بين هذه الجماهير، والتي تطبع الآن في ذاكرتي باسم "الدرس التركي الشعبي".

غناء جماعي يقطعه البكاء:

عجوزان تركيان تجاوزا السبعين من عمرهما، قطعا معا دروب الحياة، وقطعا ازدحام الشوارع ليكونا بين الحشود في ميدان تقسيم "دفاعا عن الدولة المدنية" 

كنت بين حشود المتظاهرين "المرابطين" في ميدان تقسيم باسطنبول، أقوم بعملي كصحافية، وأيضا أمتلئ بما حولي. قريبا مني كانت هناك أم، مع شابة فهمت أنها ابنتها، وسيدات فهت أنهن جاراتها. كن جميعا محجبات حجابا يدل على أنهن من جماعة المتصوفة المميزة بأثواب نسائها السوداء الطويلة.

وقفن يستمعن للكلمات التي كان يتناوب ملقوها على منصة الميدان، لكن ما إن بثت أغنية "Haydi Birliğe Büyük Türkiyem" التي تعني ترجمتها إلى العربية "هيا إلى الوحدة .. إلى تركيا العظيمة" حتى بدأن برفع شارات النصر وتعانقن عناقا جماعيا، رفعن أصواتهن بالغناء وسط بقية الأصوات، وانخرطن في البكاء، كن يبكين ويغنين ويلوحن، يتعانقن ثم يحملن أعلام تركيا. كنت منبهرة بدموعهن والروح في أصواتهن وهي تعلو كلما تابعت الأغنية:
"الشهداء لا يموتون .. الوطن لا يقسم ..".

في الميادين إلى أن ينام القمر:
عجوزان تركيان تجاوزا السبعين من عمرهما، قطعا معا دروب الحياة، وقطعا ازدحام الشوارع ليكونا بين الحشود في ميدان تقسيم "دفاعا عن الدولة المدنية" كما قالا. 
عندما أسقطهما التعب لم يغادرا الميدان، بل جلسا إلى الأرض يحضنان العلم التركي. ناما حيث هما مع ساعات الصباح الأولى.

متعارضون يجمعهم الوطن: 
كانت لحظة تاريخية تلك التي اجتمع فيها زعيم حزب العدالة والتنمية الحاكم في تركيا، وزعيمي أكبر حزبين معارضين في البلاد "الشعب الجمهوري" و"الحركة القومية". الثلاثة مع رئيس هيئة الأركان ورئيس البلاد على منصة واحدة، أمام 5 ملايين شخص، غص بهم ميدان "يني كابي" وبحر "مرمرة". ولم يكن في كلماتهم ولاء إلا للوطن. الجميع قال "تفرقنا وجهات النظر والانتماءات، ويجمعنا الوطن. محاولة الانقلاب لم تكن ضد شخص أو حزب بل كانت ضد الديموقراطية والدولة المدنية".

هذا التضامن السياسي لم تنبعث منه رائحة الزيف السياسي التي تفسد عالمنا، وتفرقنا في بلداننا على اجتماعنا والتقائنا، حتى ليقتل الأخ أخاه، ويثبت الضد فقط التضاد.

"أخ عائشة" سوري في وجه الانقلاب: 
اسمه عمر، لكنني أسميه "أخ عائشة" زميلتي في العمل من سوريا.
خرج إلى ولاية أمن اسطنبول مع الجموع، أول دعوة الرئيس التركي للشعب للخروج إلى الميادين.
أصابه الرصاص ذاته الذي قتل إلى جانبه ثلاثة من أصدقائه. مازال إلى اليوم في المستشفى لا يستطيع المشي، ويستجيب ببطء للعلاج الفيزيائي، لكن "روحي سعيدة" كونه قال "شكرا لتركيا" بالطريقة التي أملاها عليه انتماؤه للبلد حيث يعيش، والذي استقبل عائلته وملايينا من أبناء شعبه الفارين من جحيم بشار الأسد وحلفائه.

تناوبوا يرحمكم الله:

بالمحطة قال لي صوت مبحوح "احملي العلم، وخذي دورك في المناوبة" كان يعني ذلك حقا،

الساعة الثانية فجرا، بمحطة الميترو "يني كابي" كانت العربات تحمل مغادرين من ميدان تقسيم، أو آخرين قادمين إليه، لا تستطيع أن تقول أن الشباب أكثر تواجدا من الكهول والشيوخ، أو أن الرجال حاضرون كثر من النساء والأطفال. لقد كان الجميع عائدين من الميدان أو ذاهبين إليه، وحتى داخل العربات كانت تكبيرات ""يا الله .. بسم الله .. الله أكبر" ترتفع.

بالمحطة قال لي صوت مبحوح "احملي العلم، وخذي دورك في المناوبة" كان يعني ذلك حقا، ففي الميادين كانت تعني المناوبة أيضا، افتراش الأرض وإعداد خيم صغيرة إن اقتضى الأمر، وتحضير كؤوس الشاي للسهارى حتى إشراقة الشمس، مع أن عربات توزيع المياه والطعام كانت متوفرة بتنسيق مسبق من السلطات التركية.

ليلة بعد أخرى كنت أظن أنهم سيتعبون، وقد لا تكون الميادين بذات الزخم، لكنهم استمروا بالخروج والمرابطة، والغناء ورفع الأعلام وشارات النصر، وإلى حين كتابة هذه الأسطر هناك تجمع كبير في العاصمة أنقرة، يؤبن ضحايا المحاولة الانقلابية الفاشلة، يرفع فيه العلم التركي، ويقول فيه النشيد "نحن الشاهدون حماة الديموقراطية .. وإن فقدنا القليل منا .. يحيى ألف شهيد وشهيد".

أخيرا نسيت أن أقول لم أصادف أو أسمع أن فتاة صادفت متحرشا ما، وهذه قصة أخرى تستحق أن تروى مفردة من تركيا ..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.