شعار قسم مدونات

عندما ينقلب الصومال على الحضن العربي

blogs-الصومال

لعل القارئ الكريم، يتساءل "متى كان الصومال في حضن حتى ينقلب عليه؟"، وهو تساؤل عادل، إلا أن الحضن العربي في حقيقته مجرد إطار وهمي مفترض ومرغوب فيه لا موجود حقيقة، وذلك منذ تأسيس جامعة الدول العربية التي لم تصبح يوما جامعة عربية، وبقيت كما اختار لها الآباء المؤسسون جامعة دول عربية، وهذا لم يأت صدفة، بل كان نتاج قناعة مسبقة للعقل السياسي العربي، بأن إجماعا عربيا بالشكل الوجداني الذي نحلم به أمر لا ممر إليه يوصل، فأجمعوا على ألا يجتمعوا كما يقوله الصِرَاح وتجلى في مسيرة الجامعة العربية لأكثر من سبعة عقود، وهذه فترة زمنية كافية لفهم طبيعة منظمة إقليمية مثل الجامعة.

 

الصومال اليوم، في ظل بحثه الزاحف عن مخرج ما من واقعه المرير الذي يشعر فيه بالوحدة واليتم، قد يهتدي إلى مخرج لا يخرج به من واقعه فقط، بل قد يخرجه أيضا من إطاره العربي.

لكن الذي قد لا نختلف فيه كثيرا، وجود حضن وجداني عروبي، شكّلته الأحداث التاريخية الجسام، والتحديات التي مرّت على العرب خاصة في تاريخهم الحديث والمعاصر، ولا تزال تتوالد وتتفرّخ، بدأ من التهميش والتتريك التركي، ومرورا بالعدوان الصهيوني الصليبي، وانتهاء إلى التحالف الإيراني الروس أمريكي المعادي.

 

غير أن العاطفة لا مكان لها في عالم السياسة القائم على المنافع الحقيقية لا الوهمية، الموضوعية لا الوجدانية، المفردة لا المجملة؛ فهل الحضن العربي استجاب لمصالح وحداته؟ وماذا جني الصومال، حصرا، من تواجده في المحفل العربي حتى نطمئن على بقائه مع إخوانه؟ وهنا لا أخوض في الإجابة عن هذا السؤال المستفزّ بطرحه، ليس لأني متحاش إجابته، بل لأنه سؤال يحمل جوابه معه.

 

إن دولا محورية، أو كانت محورية، عربيا باتت اليوم خارج الإجماع العربي، وبدأت تغرّد خارج السرب، لأسباب قد تكون موضوعية وطبيعية؛ نظرا لفشل الجامعة فيما أنشئت من أجله نسبيا، أو استجابة لاستراتيجيات القوى العظمى العالمية التي لن ترضى بأن ينضم إلى محافلها السيادية منافس يحظى بعوامل اندماج مثل تلك التي تتوافر للعرب، وبالتالي ترغب في أن تبقى جامعتهم جامعة دول لا جامعة عرب، وربما تجاوبا مع طبيعة النظام العالمي العولمي الذي ينفخ الوطنية ويعزّز الذاتية، ولعل هذا كله أو بعضه اجتمع على تلك الدول فاتخذت سبيلها في الانقلاب على الجامعة سربا.

 

فالصومال اليوم، في ظل بحثه الزاحف عن مخرج ما من واقعه المرير الذي يشعر فيه بالوحدة واليتم، قد يهتدي إلى مخرج لا يخرج به من واقعه فقط، بل قد يخرجه أيضا من إطاره العربي، وهذا على الأقل سيناريو ممكن بل محتمل ومتوقع في ظل التحوّلات الجذرية التي يشهدها النظام العالمي القائم، فلماذا لا ندرسه الآن ولا نستعدّ له، على الأقل، إذا عجزنا عن إيقافه؛ بل لماذا نستسلم ولا نحاول إبطاله في إحدى مراحله التي توشك، حسب رأيي، أن تخلص خلال سنوات وربما شهور قادمة.

 

ما الذي يمكن أن يجعل الصومال يندفع إلى هذا المخرج المخيف؟ كيف يمكن أن يتم ذلك؟ ما الذي سيترتّب على هذا الخروج المشئوم؟ وما تداعيات تلك النتائج على الأمن القومي العربي؟ أسئلة كل واحدة منها أكبر من أختها، ولا يمكن مناقشتها في مقالة محدودة الكلمات والحروف، ولذلك سنكتفي، في هذا المقال، بتصوير مشهد الخروج فقط.

 

ما المانع، أن تأتي قيادة صومالية يوما، وتقتنع أو يُقنع رغبة أو رهبة بأن الصومال لا يستطيع أن يتحمّل تداعيات الصراع العربي الإيراني "إذا صح التعبير" وانعكاساتها التي يؤكد الواقع أنها ستزداد ثقلا وحيوية يوما بعد آخر.

ثمة دوافع موضوعية قد تكون وراء حدوث أمر كهذا، ويمكن أن يكون في مقدمتها التخفف من تبعات الصراع العربي الإسرائيلي، وشعاراته البالية التي تنصّل منها الجميع تقريبا كل على طريقته، ولم تعد سارية المفعول منذ كامب ديفيد، حين قرّرت كبرى الدول العربية، بلا جدال، التوقّف عن هذا المسار المسدود في علاقاتها مع أقوي دولة في المنطقة، أو ما نسميه بـ "الكيان" تعنتا، انطلاقا من مصلحتها الوطنية الخالصة؛ حتى وصل الأمر اليوم أن يتخلى الفلسطينيون أنفسهم عن الإجماع العربي بشكل عام، ولعل من كان يتابع خطابات القيادات الفلسطينية في كل من الضفة وغزّة في الآونة الأخيرة، يتوصّل إلى هذا الاستنتاج، فلم تكن عبارة "نتقطع ألما على حلب، ولا نتدخّل بشئون الدول" التي تلفّظ بها مشعل قبل أيام، سوى أحدث بيان في هذا الاتجاه.

 

فما المانع من أن تهتدي قيادة صومالية في لحظة من اللحظات، إلى ضرورة الخروج من هذه الحرب التي لم يدخل فيه الصومال أصلا، ولكنه توهّم ذلك فقط، ودفع ضريبة توهّمه غاليا كما يراه كثير من أهل الرأي؟ حينها ستهبّ الرياح من الصومال بما لا يشتهيه العرب، فلن يبقى الصومال حامي النيل من خلفه، ولا عمقا استراتيجيا لكل من مصر والسودان، ولن يظلّ بحر العرب عربيا، وستتمكّن إسرائيل من المخرج الجنوبي للبحر الأحمر مثلما أصبحت لها منصة فاعلة عند مخرجه الشمالي، عندها لن ترون صومال اليوم الأبي الحوافظ الذي يتفاعل مع القضايا العربية والإسلامية بكل جرأة وإقدام، ويومها سيأخذ كل ما هو عربي إسلامي في الصومال منحا مغايرا تماما، وسيدفع العرب فاتورة تركهم للصومال ينزف ويُستنزف.

 

تعال إلى المسألة العربية الإيرانية، والتي هي بأصالتها عربية إيرانية بناء على جذورها التاريخية العربية الفارسية، التي أثمرت حكاية السنة والشيعة، وبمعطياتها الحالية التي تؤشر كلها بوضوح أن الأطماع الإيرانية ليست على حساب دولة أو مجموعة دول عربية بعينها، بقدر ما هي على حساب العرب ككل منافس، بل على حساب دول المنطقة كلها، ومع ذلك، وللأسف الشديد، لم ينعقد إجماع عربي في كيفية التصدي لتلك الأطماع الجيبوليتيكية المكشوفة، حيث تنظر أغلب الدول العربية إلى المسألة من خلال مصالحها الذاتية وتقييمها الخاص؛ فما المانع، والحال هكذا، أن تأتي قيادة صومالية يوما، قد لا يكون بعيدا، وتقتنع أو يُقنع رغبة أو رهبة بأن الصومال لا يستطيع أن يتحمّل تداعيات الصراع العربي الإيراني "إذا صح التعبير" وانعكاساتها التي يؤكد الواقع أنها ستزداد ثقلا وحيوية يوما بعد آخر.

 

أعتقد أنه لا يفصلنا عن هذا المشهد سوى لحظة يتوجّه فيها مكوِّن من الفاعلين في المنظومة السياسية الصومالية، تكتيكيا أو استراتيجيا، نحو استثمار المسألة العربية الإيرانية لصالح طموحه السياسي، فيستقوي بالطرف الإيراني ثم يصل إلى سدّة الحكم في البلد، فيكافئ الحليف على ما قدّم، وعلى حساب الأمن القومي العربي، وهذه أبسط الكيفيات التي يمكن من خلالها أن يتحوّل السيناريو إلى مشهد حقيقي، ولعل الاهتمام الجاد للخارجية الإيرانية للملف الصومالي، وبدافع الانتقام والرغبة في إعادة الكرّة بعد هزيمتها الدبلوماسية في الصومال في ظل لحظة الانفراج التي تعيشها الخارجية الإيرانية؛ لعل هذا سيكون من ضمن ما سيسيل لعاب بعض الأطراف الصومالية الطامحة ويدفعها صوب ذاك الاتجاه.

 

حينها سيدفع العرب الثمن باهظا، ويدركون أن الصومال بإمكاناته ومقدّراته وخصائصه الديموغرافية والاستراتيجية، كان جوهرة ثمينة ضاعت منهم وسقطت من أيديهم، حينها سيكون الباب الخلفي للجزيرة العربية مكسورا، وظهر العرب مكشوفا، وستهبّ من تلقاء القرن الإفريقي عواصف، ستجد في اليمن ضغطا جويا مناسبا؛ لتشتدّ وتضرب بقسوة الخليج العربي المهيأ بكل المقاييس ليصبح ساحة حرب ضروس في أي لحظة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.