شعار قسم مدونات

المَرءُ مِن عرّابه

blogs- الخيل

تعود أحداث القصةِ في ذاكرتي عشر أعوامٍ كاملة على أقلّ تقدير، كنت طفلةً صغيرة بالكاد تفتّحت زهرَتُها على الحياة، أذكر يومَها أننا كنا في رحلةٍ عائلية بسيطة في إحدى عطل نهاية الأسبوع في منطقة حُرجيّة. كنّا جلوسًا، حتى اخترق المشهد رجلٌ يمتطي حِصانه، ويسير به الهوينى. كان المنظر مألوفًا فقد جرت العادة أن يَمتهن العديد مهنةَ تأجير الأحصنة في تلك المناطق لمدّة قصيرة تقلّ عن العشرة دقائق مقابل أجرٍ بسيط، لتأخذَ على صهوته لفّة أو اثنتين في المكان ثمّ تعيده إلى صاحبه، لكنّ شيئًا ما بدا مختلفًا في ذلك الحصان!
 

إلى الآن لا تفارقني صورتُه، كان يسير بكبرياءٍ غريب، تحيط به هالةٌ من السّموّ والمَهابة، بلونه الرّمادي الضارب إلى السواد، وشعرِه الأخيَل الحالك والنظيف، حتّى استقامةُ ظهر صاحبه عليه بدت مبهرة. كان كلّ هذا دافعًا ليقوم واحدٌ من أقاربنا ويطلبَ استئجاره لبعض الوقت. حينها أتت إجابة الرجلِ على خلاف كل التوقعات، صادمة! قال بتلقائية شديدة "ولكن الجِياد ليست للأجرة، إنّ لها كرامةً وعزّةَ نفس، لا نكسِرُها بإتاحة ظهرها للجميع، أنا آخذ جوادي في جولةٍ ليس إلا" ولم يقل بعدها كلمةً!
 

أجمعَ الكلّ على روعة ما قال الرجل، فلا شكّ أن جوادا كالذي معه كان لا بدّ أن يُعامل على نحو مختلف! أخيرًا طلب منه ذات القريب أن يأخذ صورةً لنفسه مع ذلك الحصان فوافق الرجل على الرّحب قائلًا باعتزاز أنّ حصانَه مميّزٌ بالفعل ويليقُ به أن يأخذ الناسُ صورًا معه.
 

صارَ الخيل يمشي مختالًا بجمالِه الذي يراه في نفسِه لا في عيون الناس، ممّا أرخى عليه ظلًا طويلًا من الثقة والسموّ، فصار الكلّ يراهُ جميلا كما يرى هو نفسه

انتهت القصّة، ولكنّ آثارها في نفسي لم تنتهِ يومًا، فمن بعدِها أحببتُ كلّ ما يتعلّق بالخيول، تلك المخلوقات عزيزة النفس، قويّة الشّكيمة، ولأعوامٍ طويلةٍ اعتقدتُ أنّ ذلك الرجل -الذي لا أتذكّر ملامحه الآنَ بوضوح- كان محظوظا لأنه حظي بفرصة الحصول على حصانٍ مميّز يلفت الأنظار. ولكن، في العشرين من عمري انقلبت كلّ الموازين، واختلفت أحكامي على الكثير من الأشياء، وأدركتُ وقتَها فقط أنّ الحصان هو من كان محظوظًا بصاحبه، وليس العكس!
 

حين أنظر إلى الخيل الذي في ذاكرتي بعين الفتاة الكبيرة الآن لا أرى فيه خِصالًا فريدة كالتي كنت أراها وأنا طفلة. كان جميلًا نعم، ولكن ككلّ الخيول، له نفس الوقفة ونفس القوائم الأربعة وحتى نفس الشعر الأسيب. ولكنه ما زال مختلفا بنظري -وسيظلّ- لأن صاحبَه هو من كان مختلفا حين عاملَه على أنّه شيءٌ ثمين ونادر، وراعى كبرياءَ الخيل التي يضرب بها المثل، فمنحه بذلك الفرصة ليعتدّ بنفسه كما لو كان ثمينا ونادرًا بحقّ، وصارَ الخيل يمشي مختالًا بجمالِه الذي يراه في نفسِه لا في عيون الناس، ممّا أرخى عليه ظلًا طويلًا من الثقة والسموّ، فصار الكلّ يراهُ جميلا كما يرى هو نفسه. أليس لهذا كانوا يقولون أنّ الخَيلَ مِن خيّاله؟
 

في ظروفٍ أخرى كان يمكن أن يكون خيلنا هذا خيلًا عاديّا، يُمتهَن ظهرُه، وتعلو قسَماته مسحةُ انكسارٍ لا تخطِؤها عينُ المتفرّس في الوجوه، وجوه الخيولِ التي كُسرت أنَفتُها حين أتيح ظهرها للجميع كما قال صاحبُنا في البداية. وكلُنا سنكونُ ذلك الخيلَ الفريد، إن وجدْنا خيّالا كخيّاله..

"المرءُ مِن عرّابه!"
بإسقاطِ هذا علينا نحن البشر، فإننا جميعًا نمتلك الإمكانات ولو بدرجات متفاوتة، نحن جميعًا جميلون، وأذكياء، ومميّزون في شيءٍ ما أكثر من غيرِنا، لكنّنا نحتاج في الغالب لمن يسلّط الضوء على نقاط قوّتنا تلك لكي يمكِّنَنا من رؤيتها، الأطفالُ منّا خصوصًا لأنهم لا يعرفون بعدُ أنهم يمتلكونها من الأساس، نحتاجُ عرّابًا!
 

لا تثبّط عزيمة شخصٍ متّقد، لا تطفئ بريقَ الأمل في عينَيه، لا تفعل ذلك مطلقا خصوصًا لهذا النوع من الأشخاص لأنّ خسارة العالم عندها تكونُ فادحة.

وقد شحّ العرّابون في عالمنا، كم سيكون نبيلًا أن نكون نحن هذا العرّاب، ولأكبرِ عددٍ ممكنٍ من الأشخاص! كم سيكون نافعًا أن نجعلَ مهمّتنا بعث النّفسِ الرازحة تحت وطأة اليأس وعدمِ الثقةِ من رمادِها حتى تُبصرَ في نفسِها مكامن العظَمة والقدرة! وإن لم نستطع فأنبلُ ما يمكن لنا أن نكونه هو ألا نكونَ على النّقيض تماما من ذلك، ممّن يهيلون عليكَ سقف الأماني كلّما شيّدْته عاليا فوق رأسك ويخبرونك على الدوام بأن كلَّ شيءٍ صعب ومستحيل، ولا جدوى حتى من المحاولة!
 

من منّا لم يسمع عن أولئك الذين بدأوا بنفض الغبار عن أنفسهم ثم توقّفوا حين كانوا في أمسّ الحاجة لمن يدفعهم للمواصلة، عندما جاءتهم الكلماتُ الآثمة كيَدٍ دفعتهم من الخلف عن الطريق الذي كانوا يقفون على حافّته أصلًا! لذلك حين ترى شخصًا يحاول، شخصًا مبتهجًا ومقبلا على الحياة، يحملُ معه شمسَه الخاصّة ويحاول بثّ الأمل في نفوس الآخرين كن عوْنا له حتى وإن بدا لك أنه لا يحتاج للمساعدة، إن لم يكن بكلامك فصمتُك سينفع بالفعل!
 

لا تثبّط عزيمة شخصٍ متّقد، لا تطفئ بريقَ الأمل في عينَيه، لا تفعل ذلك مطلقا خصوصًا لهذا النوع من الأشخاص لأنّ خسارة العالم عندها تكونُ فادحة، تذكّر أنّك حينها لا تطفئ قنديلا واحدًا فحسب بل تطفئ كذلك قناديلَ كثيرة كان من الممكن أن يشعلوها! طبعا هذا لا يعني أنني أدعوك لفعل أيٍّ ممّا سبق لشخص مُنطفئ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.