شعار قسم مدونات

المنطق القديم في ميزان السوسيولوجي (3)

blogs-المنطق

ذكرتُ سابقاً أن المنطق الأرسطي كان الركيزة الأساسية في عزل أصحاب الفكر عن الناس، وبالتالي عزلهم عن الحياة الواقعية، وأدى ذلك إلى أمرين:
فالأول؛ أن الفجوة بين المفكرين والعامة من الناس قد اتسعت إلى حد كبير جدا.
وأما الثاني؛ ازدواج شخصية المفكر، فهو كأي كائن بشري يحتاج إلى الواقع والمعايشة، وبالتالي يحتاج بدنهُ إلى العيش، في حين أن عقله مفصول تماما عن الواقع هذا، فمجموعة التصورات الذهنية الثابتة التي يؤمن بها ذلك المفكر، لا تعبر عن الواقع في شيء ولا حتى قابلة للتنفيذ والمطابقة.
 

ويذكر لنا ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: أن العامي البسيط ينجح في الحياة الواقعية أكثر من المفكر وذلك لأنه يُكيف نفسه للواقع كما هو من غير أن يلجأ في سبيل ذلك إلى قياس منطقي أو تفكير نظامي، أما الفقهاء والمناطقة فقد اعتادوا على الغوص في المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن أموراً كلية عامة، فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن ولا تصير إلى المطابقة، فيقعون في الغلط كثيراً ولا يُؤمَن عليهم.
 

المفكر القديم قد أخفق في الحياة لأنه يفرض فيها الثبات ويُريد فيها أن تستجيب لمقولاته المنطقية الساكنة بينما هي في الواقع متقلبة، إذ هي تتغير من يوم إلى يوم.

ويتضح لنا الأمر أكثر حين ندرس قوانين المنطق الأرسطي الثلاثة الأساسية والتي تستند عليها كل أقيسته. فالقانون الأول؛ ويُسمى بقانون الذاتية ومفاده أن الشيء هو هو، ولا يمكن أن يكون شيئاً آخر. بمعنى أن الثبات أو ما يسمى بالسكون أصل الكون، وأن الحركة أو ما تسمى اجتماعياً بالصيرورة شيء عرضي ولا يُعبر عن الكون في شيء. لذا يُمكن نعت هذا القانون بقانون "الحقيقة الثابتة" يقول "جون ديوي" في كتابه علم المنطق (Logic) "أن فلاسفة الإغريق كانوا يعتقدون بأن من شروط الحقيقة أن تكون ثابتة لا تتغير، فإذا تغيرت بَطُلت أن تكون حقيقة وأصبحت وهماً.
 

ويُشير أستاذ علم الاجتماع "د. علي الوردي" في كتابه "خوارق اللاشعور": أنهم "فلاسفة الإغريق" قد اقتبسوا هذه الفكرة من ملاحظتهم للمادة الجامدة، فهُم حين رأوا الكون مملوءا بها ثم رأوها ساكنة لا حركة فيها، تخيلوا أن أصل الكون هو السكون. أنا اليوم فقد انقلبت هذه الفكرة رأساً على عقب حيثُ قد ثبت في علم الفيزياء أن المادة في حركة مستمرة وأن ما ترى في ظاهرها من هدوء وجمود إنما هو من وهم حواسنا، وقد انتقلت هذه الفكرة من الفيزياء إلى العلوم النفسية والاجتماعية فأصبح مفهوم المجتمع اليوم مفهوماً حركياً وكذلك عُرفت الشخصية البشرية حديثاً بأنها حركة وتصيّر.
 

فالمفكر القديم قد أخفق في الحياة لأنه يفرض فيها الثبات ويُريد فيها أن تستجيب لمقولاته المنطقية الساكنة بينما هي في الواقع متقلبة، إذ هي تتغير من يوم إلى يوم ولا ينجح فيها إذاً إلا ذلك المُحنك الذي يرقب تغيُرها بعين ثاقبة وينتهز فرصها المتراكضة انتهازاً عاجلاً. ونتطرق للقانون الثاني؛ والذي يُسمونه بقانون "عدم التناقض" ومفاده أن الشيء لا يمكن أن يكون صاحب صفة وعكسها في الوقت ذاته. فمثلاً: الأمر في نظرهم إما أن يكون خيرا أو أن يكون شرا، ولا يجوز أن يكون خيرا وشرا في نفس الوقت، وكذلك أيضا إما أن يكون حقاً أو أن يكون باطلاً، ولا يجوز أن يكون حقاً وباطلاً في ذات الوقت.
 

معنى هذا كله، أن الحقيقة في نظرهم هي أمر مطلق دائما ولا يمكن أن يكون نسبي. يرى "هيجل" أن التناقض أصيل في طبيعة الكون، فكُل شيء في نظره هو وليس هو في آنٍ واحد، وكل فكرة إذاً تحتوي على نقيضتها في صميم تكوينها. ويقول "الوردي" وقد أشار ابن خلدون إلى مثل هذه الفكرة التي جاء بها هيجل ثم طبقها على تاريخ الأسر المالكة والدول التي حكمت الإسلام وغيره، فكُل أسرة في نظره صالحة في أول أمرها طالحة في الأخير وليس هناك إذاً أسرة صالحة صلاحاً مطلقاً. وقد انتقد ابن خلدون المؤرخين الذين كانوا مُبتلين بداء المُفاضلة بين الأسر على أساس القيم المطلقة، فهُم في نظره موسوسون خياليون لا يفهمون واقع الحياة الاجتماعية.
 

ويُكمل: نستطيع أن نعتبر ابن خلدون هو هيجل العرب، ففلسفته الاجتماعية تدور في الغالب حول هذا "الديالكتيك" الذي يقوم على التناقض وهو بهذا قد نسف القانون الثاني الذي آمن به المناطقة القدماء. ثم نذهب إلى القانون الثالث، والذي يُسميه المناطقة قانون "الوسط المرفوع" أو التصنيف الثنائي، وهو "كما يقول الوردي في شرحه له": أن العالَم مؤلف من جانبين لا ثالث لهما، جانب الحق وجانب الباطل، أو جانب الجمال وجانب القبح، أو جانب الخير وجانب الشر.. إلخ.
 

الناس ميالون بطبيعتهم إلى التصنيف الثنائي، فاصطنعوا حداً فاصلاً يفصل بين الأفراد من ناحية العقل، أو الخُلق أو المنزلة أو ما شابه، بينما الأفراد في الواقع متفاوتين

فالشيء في نظرهم إما أن يكون في هذا الجانب أو ذاك، وإن خرج من جانب دخل حالا في الجانب الآخر. فليس في هذا المنطق "بين بين"، بمعنى أوضح "مَن ليس معنا فهو ضدنا" يقول الفيلسوف الإنجليزي "شيلر" في كتابه "Formal Logic": إن الحقيقة في ضوء المنطق المطلق واحدة، والآراء يجب أن تكون متفقة، فأنت إما أن تكن مع الحقيقة أو ضدها، فإذا كنت ضدها فأنت هالك، أما إذا كنت مع الحقيقة فليس لأحد أن يجرؤ على مناقضتك، إنك مُحق عند ذلك إذا غضبت على أولئك الذين يجادلون في الحقيقة، الحقيقة حقيقتك، أو هي بالأحرى، أنت إذا جردت نفسك من مشاعرك البشرية.
 

واستنادا بالعلوم الحديثة، فقد أثبتت الفيزياء على سبيل المثال أن المادة موجودة في كل مكان ولا حصر لوجودها في الفضاء على عكس ما قد قيل قديماً، بأنها موجودة هنا وغير موجودة هناك أي أنها موجودة في مكان ثابت. إن ذلك المنطق يُشكل لأصحابه تلك النظرة الثنائية المحدودة، فإما أن تكون معي أو ضدي، وهو نفس المنطق الذي يتم استخدامه في أساليب الصراع بين الطوائف والمذاهب والأحزاب، فإما أن تكن مع الحقيقة التي يروّنها وبالتالي تكن في صفهم، أو ضد ما يعتقدونه حقيقة وبالتالي ضد قراراتهم ومصالحهم.
 

ويُزيد د. الوردي في نقده لهذا المنطق فيقول؛ إن الناس ميالون بطبيعتهم إلى التصنيف الثنائي، وهُم بذلك قد اصطنعوا حداً فاصلاً يفصل بين الأفراد من ناحية العقل، أو الخُلق أو المنزلة أو ما شابه ذلك، هذا بينما الأفراد في الواقع متفاوتين تفاوتاً تدريجياً لا يقبل ذلك التصنيف الثنائي. ولئلا نقع ضحايا لأولئك الذين أرادوا السيطرة بدلاً من الحوار، والثبات بدلاً من الصيرورة، كي يخدم المنطق الثابت مصالحهم ورغباتهم، فإنه يجب علينا إيجاد منطقاً يستند في قوامه على الحركة الاجتماعية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.