شعار قسم مدونات

الهروب من الجحيم

blogs - السجون المصرية
ما الذي يدفعني للبقاء فى وطن كل ما فيه يدعو للموت؟ أعطني سببا واحدا يجعلني أقرر البقاء.
تساؤلات وقعت في ذهني بينما كنت أشاهد لحظات الأم المكلومة أمام جثة ابنها الذي غرق بينما كان يحاول الهروب. الهروب من الجيحم. الهروب من وطن لم تعد فرصة الحياة متاحة فيه.

مجرد الحياة فقط، فالموت يحيط بنا من كل اتجاه بعد ما جردت من كل المقومات التى تليق بوطن. مشهد متكرر اعتندنا على رؤيتة في مصر مرارا وتكرارا بعد الانقلاب العسكرى الذي جعل الموت مشهدا مألوفا لم نعد نكترث لرؤيته في كل لحظة تمر علينا؛ بينما ينغمس أمراء الدم هؤلاء في البحث عن مصدر استثمار جديد لتتضاعف ثرواتهم وتتفاقم آلامنا.

قتلوا مجدي ليأكدوا بأن لا فرق في الظلم بين مسلم أو مسيحي، فالدين لله والتعذيب للجميع

لقد طال القهر الجميع حتى الأطفال؛ لم يعد يكترث لطفولتهم، وأصبحوا من ساكني السجون، وذرف الرجال الدموع قهرا، وبيعت أعضاؤنا فقرا وجوعا. لو كان بيننا عمرو بن الأهتم السعدي لما كان فكر للحظة أن يكتب هذا البيت المشهور: لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق.

فلقد ضاقت البلاد بأهلها حتى اعتصرتهم ولفظتهم وقتلتهم مرارا وتكرار. قتلتهم بالجوع والفقر والقهر والظلم كسرت نفوسهم. ضيع الشباب ربيع أعمارهم ومقتبلها في محاولات الخروج منها أو التغرب والبحث عن لقمة عيش في بلاد أذلتهم هي أيضا بدورها.

هذا الجحيم الذي حكم على مهند بالموت مئات المرات وتركه يواجه الصراع منفردا مع المرض الذي نهش جسده كما تنهش الكلاب فريستها. تهمته الوحيدة كانت أنه طفل فى الخامسة عشر من عمره؛ يحمل كاميرا يلتقط بها صورا لمشهد قتل عسكر النظام للمتظاهرين في الإسكندرية.

هذا الجحيم الذي اختطف أكثر من ستين ألف شاب ورجل وفتاة، وغيبهم في مقابر جماعية يسمونها سجونا، وهي أبشع من مجرد سجون فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، يتلقون فيها كل ألوان التعذيب البدني والنفسي والروحي؛ فهي كالدرك الأسفل من الجحيم الكبير الذي نعيشه.

بأي ذنب يقتل هؤلاء كل يوم في زنازينهم بطرق مختلفة، بأي ذنب يسرق شبابهم، ومنهم من يفقد طفولته فيها.
 

لعمركم لقد ضاقت البلاد بأهلها. فاهربوا منها ولا تقتلوا أنفسكم بالبقاء

هذا الجحيم الذي قتل المواطن مجدي مكين، بعدما أذاقوه كل أنواع التعذيب، وهتكوا عرضه ببشاعة تؤكد بأن هؤلاء ليسوا بشرا، فقد بلغ بهم الأمر حد الجنون كمرضى نفسانيين، ومن مثلهم يجب أن يكون خلف أسوار المشافي النفسية بعيدا عن الناس.

قتلوه دون أي سبب يذكر كغيره من بسطاء هذا الجحيم. قتلوا مجدي ليأكدوا بأن لا فرق في الظلم بين مسلم أو مسيحي، فالدين لله والتعذيب للجميع. قتلوا مجدي ليأكدوا أن حياتنا أرخص من بقايا سيجارة ألقوها تحت أقدامهم بعد أن انتهوا منها. قتلوا مجدي لأنه بلا سند.

ولكني أرى أن ضحايا هذا النظام عن طريق القتل هم أحسننا حظا، فمن من لم يمت بالتعذيب حتما سيموت جراء تناول القمح المسرطن الذي سمح النظام بدخوله، أو بالمرض بعدما شح الدواء وتوقف استيراده وأمرت الحكومة المستشفيات باستعمال (السرنجة) أكثر من مرة. طبقا لنظرية السبوبة التي يتبعها الجنرالات الذين أسند إليهم كل شيء بالأمر المباش.

تربحوا في غذائنا وعلاجنا، وباعوا الأرض التي ذرفت عليها الدماء دفاعا عنها، وزيفوا التاريخ ليقنعونا بأن الأرض ليست لنا، وسمموا عقول أطفالنا بمناهج مغلوطة وأكاذيب مكشوفة، فتقلد الرويبضة المناصب وتحدث الأفّاقون، وعلا صوت الباطل وغاب العدل، وانجلى عن الظلم غطاءه، وأصبح البطش عيانا بيانا في وضح النهار لكل من تسول له نفسه أن يقول: لا.

لعمركم لقد ضاقت البلاد بأهلها. فاهربوا منها ولا تقتلوا أنفسكم بالبقاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.