شعار قسم مدونات

في النقد (3)

blogs - book
كان "شوبنهاور" لا يعوّل على التجديد عبر الجامعات، بل كان يرى أن التجديد الحقيقي يبدأ خارج أسوارها، ويشرح "نيتشه" هذا في كتابه "شوبنهاور مربياً" بقوله "إن الطلاب يخشون فيها من يدرّسهم، ومن يدرّسهم يخشى الرأي العام!"، إن هذا يصنع حالة جامدة من التعليم، فالطالب يخشى أن يخالف من فوقه، وتضحى سلطة المعلم سلطة أبوية، تعكس ما لا يخالف المجتمع لكون المعلم يحرص على عدم مخالفة السائد.
 

سلطة المعلم التلقينية تلك التي تخبو أمامها ملكة النقد عند الطالب، تذكر بسيطرة أرسطو قروناً على حقول الفكر ومعرفة الطبيعة والسياسة لمدة ألفي سنة، لقد كانوا ينظرون إليه بما عبر عنه اللقب الذي أطلقوه عليه "المعلم الأول"، لقد كان هو المعلم، وكانوا هم الطلاب وعكَس موقفهم تلك الطريقة الكلاسيكية في تعامل الطالب مع معلمه!، فقد كان العقل في القرون الوسطى مرادفاً إلى درجة كبرى لأرسطو، وكانت وظيفة الدائرين في فلكه أن يشرحوا عباراته، ومن يخالفه فهو مجنون، أو ذو حكمة مموهة "سفسطائي".
 

في رفض النقد يقول بعضهم "أهل مكة أدرى بشعابها" لإسكات أي ناقد للأمر من خارج البلد أو الحزب، ويقال "كلامه صحيح" ولكن ليست معرفة مكة حكراً على أهل مكة!

ومع ترسخ سلطته في الوعي الجمعي، صارت مخالفته مخالفة للسائد، وهناك افتراض أولي عند كثيرين أن الأكثرية تضمن مجالاً أكبر للصواب، وبالتالي فهي أفضل من عقل فرد، في حين أن هذا ليس دقيقاً بما يكفي! فكثيراً ما يندفع الناس إلى محاكاة السائد، بدافع التقليد، دون أن يكون لهم أي فهم حقيقي للرأي الذي يقلدونه، ولما بدأ فرانسيس بيكون بنقد الفكر الأرسطي السائد قال "ما أجدرنا أن نستعير قول فوشيون من مجال الأخلاقيات إلى مجال الفكر، إذا ما غمرك الدهماء بالتأييد والإعجاب فتحسس أخطاءَك".
 

ففي المجال المعرفي تكون كارثة تلك المداهنة لأمزجة الناس لتلقي الإعجاب، فيعطل دوره في كشف الحقائق بقطع النظر عن مخالفتها للأمزجة، فأين هو وقتها وصف المثقف وهو لا يقوّم اعوجاجاً، أو يصحح فكرة عندهم؟، يضحي كالمطرب يغني حسب ما يريده الجمهور، لا يصنع فيهم أفكاراً بقدر كونه يحرك ما يوجد فيهم.
 

ومن هنا يضحي خطاب هذا المثقف مرتعاً للمغالطات التي يفترض نقدها دوماً لإظهار الحقيقة، فمن التلفيق المنهجي، إلى المغالطات الصريحة في إقامة الحجج، وعلى سبيل المثال مغالطة "التجربة الذاتية"، وهي منتشرة جداً من قمع الابن والطالب.. إلى محاكاة السائد في الخطابات السياسية.
 

وصورة هذه الحجة أن يقول "لم أجرب هذا الشيء لأعرفه"، فالتجربة وسيلة للمعرفة هذا صحيح، ولكنها ليست هي الوسيلة الوحيدة لها، فيتقزم دوره في الشأن العام حينها إلى تخصصه الأكاديمي، ومهما حصل أي شيء خارج تخصصه فهو لا يعنيه، ويذكر "إدوارد سعيد" مثالاً على هذه الحجة في كتابه "صور المثقف"، فيذكر أن "نعوم تشومسكي" كان معارضاً لحرب فيتنام، فرد عليه خصومه بأنه ليس متخصصاً بالسياسة، في حين أن من أقام حجة سليمة لا يشترط أن يكون حاملاً للقب فيها أو ممارساً للعمل السياسي إن كانت في السياسة، فهذا شرط زائد على الحجة بذاتها.
 

حجة التجربة الذاتية منتشرة، ففي رفض النقد يقول بعضهم "أهل مكة أدرى بشعابها" لإسكات أي ناقد للأمر من خارج البلد أو الحزب، ويقال "كلامه صحيح" ولكن ليست معرفة مكة حكراً على أهل مكة!، فزيادة علم في المرتبة لا تنفي وجود علم أدنى منه بدرجة مع بقاء صحة وصفه بالعلم، فليس المخبَر كالمعاين ولكن الخبر الصحيح حجة في المعرفة، ولو طردنا موضوع التجربة الذاتية هذا إلى آخر نتائجه المنطقية لن يبقى إلا "أنا الوحيدة" بمعنى ينفي المحتج أي شيء غير ما جربه هو وأدركه هو، وهي آخر نتائج هذه الفكرة، فالمرء لا يكون واعياً مثلاً بحمل أمه به، ولا بمخاض الولادة ولا يعني هذا بحال أنه لم يولد من أم كونه لم يكن مدركاً لتلك التجربة أصلاً، بل أخبروه عنها وشاهد نظيرها في غيره وقاس ما غاب على ما شهد، فهل يمكنه أن يقول "لم أولد من أم كوني لم أجرب هذا؟!
 

أحد الظرفاء عبر عن هذه المغالطة بقوله "لا يمكنني معرفة صدق آلام المخاض لأنني رجل، ولم أدخل هذا ولن أدخله في كل حياتي، وبالتالي لعله غير صحيح!"
 

كانت حجة التجربة الذاتية تتكرر مراراً تنقض لتبرر رفض النقد، فرجل ينتقد طريقة إدارية معينة، يقال له "أنت لم يسبق لك أن كنت مديراً"، طالب ينتقد معلمه، يرد عليه الأخير "من المعلّم فينا؟!" وقد تكون حجة الطالب هي الصحيحة، هنا يضحي لقب "معلم" ليس مرتبطاً بالعلم والمعرفة التي تدور حول الأدلة، بل لقب سلطوي كألقاب الرتب العسكرية.
 

رجل ينتقد سلوك متزوج يقال له "أنت أعزب، لا تعرف معنى الزواج" بل من الطرائف أن أحدهم قال يوماً "لن آخذ بفتاوى ابن تيمية في الزواج كونه لم يتزوج"، سألته "إذن لن تأخذ فتاوى الطلاق من المتزوج حتى يطلق!؟ وأخيراً لن تسمع أي شيء عن الموت إلا من الأموات أنفسهم!".
 

رجل ينتقد كاتباً، فيقال له "أنت لم تكتب مثله كتاباً" أو حجة تقول لا يمكن استلام السلطة ممن لم يجربها من قبل، وكأن من في السلطة ولد أزلاً فيها.

ومثقف يسطو على جهد غيره على سبيل المثال، فينسب كلام غيره إلى نفسه، فيقال في الاعتذار عنه "إنها أول مرة يكتب فيها كتاباً، أو أول مرة يكتب كتاباً كبيراً! فهل المؤلف لأول مرة على سبيل المثال يمكن أن يبرر له أي سرقة بحجة أنه لم يجرب الكتابة من قبل؟!، هل سلوكه للمنهج السليم في الكتابة مرهون بدخوله التجربة الذاتية بكتابة مؤلَّف ويكون سارقاً فيه؟

رجل ينتقد كاتباً فيقال له "أنت لم تكتب مثله كتاباً" أو حجة تقول لا يمكن استلام السلطة ممن لم يجربها من قبل، وكأن من في السلطة ولد أزلاً فيها، نستطيع أن نتصور القياصرة وهم يقولون لأنفسهم "لا يمكن لغيرنا أن يقود البلاد، فهم لم يجربوا الأمر من قبل".
 

لا يشترط لفهم معنى النهيق أن يجربه أي إنسان بنفسه!، ومهما بدت هذه واضحة إلى درجة التندر بمن يخالفها، فإنها نفسها تتكرر في كثير من الخطابات بصور أعقد، حتى في النظريات المادية في المعرفة بل حتى في أقدمها كنظرية "التشارفاكية" في الهند، لا يشترط لصحة المعرفة التجربة الذاتية، بل يكفي الخبر الصحيح عن تجربة، ومن هنا يتراكم العلم، ويبني اللاحق على جهد السابق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.