شعار قسم مدونات

عشرون دقيقة عن خمسة أعوام

blogs-الهجرة لتركيا

كانت وجهّة السفّر باتجاه مدينة "غازي عنتاب" بطريقٍ يقارب ست ساعات داخل تركيا. ليس من عادتي البحث في الموجودين بين الركّاب كثيرًا إلا إذ سَمِعت أصواتًا تتحدث إما بالكردية أو العربية، كما ليس في العادة أن استهوي طعام الاستراحات إلا في حالات الجوع.
 

مدّة الاستّراحة نصّف ساعةٍ، في صالة الطعام حيث يقف جموع الركاب وقعّت عيناي على شاب يقف أمام "البوفيه"، يتساءل عن سعر الطعام، مواصفاته السورية دفعني للاقتراب منه ومطالبته باختيار طعامٍ نتشارك به والإشارة لصاحب البوفيه أن يمنح الشاب ما يريد.

إلى أين تذهب؟ أجاب الشاب بأنه يتجه إلى مدينة "بورسا" التركية بمشوار يقتضي طريق يوم كامل من السفر، أنا: من أين أنت؟، هو: أنا خليل بدّويٌ من عين عيسى بريف الرقة، هنا بدأ الإحساس الصحافي يأخذ تفكيري فأبن الرقة القادم مؤخرًا إلى تركيا هو من منطقة باتت محط أنظار العالم، وتدفع أي صحافي لمعرفة شيء عنها. قمت بتشغيل "آلة التسجيل"، فلم يتبقى لنا سوى 20 دقيقة في الاستراحة، وعليّ أخذ معلومات كافية قبل أن يتوجه خليل إلى رحلته.
 

الجيش الحر يدرك أن الناس تهرب من ظلم التنظيم وتقطع طرقًا صعبة باتجاه الرقة، مرورًا بمناطق الرقة إلى الباب ومسكنة وصولًا إلى إعزاز

ظروف الأزمة السورية أجبرت عائلة خليل على التنقل أكثر من مرّة بين "عين عيسى" ومزرعة كانت العائلة تملكها في قرية بريف الرقة، فهم لم يتدخلوا في ظروف الثورة السورية كعائلة، فيما أقرباء لهم انقسموا بين الوقوف مع "داعش" من طرف ومن طرفٍ آخر مع "الحزب"، مصطلح (الحزب) يُطلق على الإدارة الذاتية الكردية وقوتيها العسكريتين وحدات حماية الشعب والأسايش "قوى الأمن"، كما هو موجه أكثر لحزب الاتحاد الديمقراطي، يستخدم المصطلح العرب القاطنين في مناطق سيطرة الأكراد.
 

الرحيل..
رحلة "خليل" بدأت -كما يرويها- بالاتصال مع مهرب من الرقة طَلَبَ منهم 80 ألف ليرة سورية (150- 160دولار) ليوصلهم إلى حدود ريف حلب حيث مناطق يسيطر عليها الجيش الحر وبالتحديد قرب بلدة "إعزاز". بعد الموافقة خرج "خليل" وأقربائه وأناس آخرين في الساعة السابعة صباحًا باتجاه ريف حلب مع سائق عربة، يسيّر أمورهم لدى حواجز سيطرة تنظيم "داعش"، حيث يقنع مسؤولي الحواجز بأن الركاب ذاهبون إلى بلدة مسكنّة، أو إلى حلب بداعي الزيارة، فوصلوا إلى مشارف حلب عصرًا.

عند الوصول إلى مناطق الجيش الحر تبدو الأمور إلى خليل ورفاقه أسهل، فالجيش الحر يدرك أن الناس تهرب من ظلم التنظيم وتقطع طرقًا صعبة باتجاه الرقة، مرورًا بمناطق (الرقة إلى الباب ومسكنة وصولًا إلى إعزاز)، يجيب خليل على أحد عناصر الجيش الحر لسبب هربه من ريف الرقة بأنه الهروب من المجهول وخوفًا من الطائرات ومن ظلم داعش "فقد سقطت قذيفة قرب المكان الذي نعيش فيه بريف الرقة".
 

قبل الوصول إلى حاجز الجيش الحر مكث خليل ورفاقه وأناس قادمون من الرقة ودير الزور والحسكة، في مدينة الباب ليومين كاملين، قبل أن ينطلقوا فجرًا إلى مناطق سيطرة الجيش الحر، هناك سيتم افتقاد هوياتهم على "الحاسوب" وبعض الأسئلة، ثم يتم وضعهم في عربات ومنها باتجاه "كراج" مدينة "إعزاز".
 

من لا يسيء لداعش لا يقترب منه، ومن لم يسيء للحزب أو الأكراد لا يقترب أيضًا منه

في إعزاز تم تسليمهم لعربات أخرى أخذتهم إلى منطقة عفرين (تقع تحت سيطرة "الإدارة الذاتية الكردية")، تم تفتيشهم وتركهم، بعدها اتصلوا بأحد المهربين حيث أتى وأخذ بهم بحسب الاتفاق إلى بلدة "سرمدا" مقابل 4 آلاف ليرة سورية (أقل من 10 دولار) عن كل شخص، ثم أوصلهم مقابل 1500 ليرة سورية (3 دولار) إلى قرية "خربة الجوز" حيث ينتظرهم المهرب الذي سيوصلهم إلى تركيا مقابل مبلغ 240 دولار.
 

جميع الحواجز والطرقات بحسب "خليل" تمنح لهم العبور بمقابل مادي، إلا حواجز الأكراد "يكثفون التدقيق لكن لا يأخذون مقابل مادي"، بينما "حواجز الجيش الحر التي كانت تؤمن العربات كانت تأخذ من كل فرد 1500 ليرة سورية (3 دولار) فقط".
 

رحلة العائلة..
تعيد الأحداث خليل إلى ذاكرة خروجه وعائلته من بلدة "عين عيسى" قبل أربعة أعوام باتجاه قرية "الهيشة" التي تبعد 12 كيلومترًا شمال الرقة، نتيجة القصف الذي استهدف "عين عيسى" من قبل النظام، وبعد تنقلات عدّة استقروا قبل عام وشهرين في قرية "الهيشة"، التي يروي خليل أنها نقطة فصل معارك داعش والأكراد بريف الرقة، ومازالت عائلته المؤلفة من والده ووالدته وأختيه موجودين فيها.
 

خليل ذكر أن والده دفع الكثير لداعش، كي لا يقوم الأخير بتجنيد أبنائه. حياة خليل وأهله كانت تقتصر قبل الثورة على رعّي وبيع وشراء الغنم، "من لا يسيء لداعش لا يقترب منه، ومن لم يسيء للحزب أو الأكراد لا يقترب أيضًا منه".

الوصول إلى تركيا..
بعد حصول المهرب في قرية "خربة الجوز" على مبلغ 240 دولار من كل شخص، بقي أمام خليل ورفاقه طريق "تركيا"، يقول كانت هناك محاولات يومية للدخول إلى تركيا عبر الجبال باءت بالفشل على مدار ثلاثة أيام، كانوا يقطنون في منزل تابع للمهرب"، وفي اليوم الرابع بتمام الساعة 12 ظهرًا تحدث المهرب مع الحدود ودخل خليل ورفاقه قرابة الساعة 2 ظهرًا إلى تركيا.
 

لم تنتهِ رحلة "خليل" ورفاقه في الطرف التركي، فقد وصلوا إلى نقطة خالية من البشر، ثم جاءت سيارة أخذت بهم مقابل 100 دولار عن كل شخص إلى منطقة مأهولة إلى منزلٍ قريب من الحدود مكثوا فيه حتى المساء، ثم جاءت عربة أخرى وطلبت مقابل إيصالهم إلى "أنطاكيا" مبلغ 75 دولارًا أمريكيًا.
 

يشتكي عادة العمال السوريون من عدم دفع مستحقاتهم من قبل أصحاب العمل الأتراك

في أنطاكيا مكث خليل في أحد المنازل ليلة واحدة مقابل 100 دولار، "مقابل الوصول في اليوم التالي إلى كراج أورفا دفعت مبلغًا آخر بحكم أن هناك حواجز على الطريق في تركيا تطلب أوراق ثبوتية من السوريين، المال أصبح مقابل تدبير السائق مروري وغيري من السوريين".
 

رحلة العمل..
وصل خليل إلى أقربائه في أحد مخيمات بلدة أورفا، حيث تعيش أخته وأبناء عمومته، وبقي فترة ثم بدأ العمل في أحد المطاعم. يشتكي عادة العمال السوريون من عدم دفع مستحقاتهم من قبل أصحاب العمل الأتراك.

هذا ما حدث مع خليل، الذي عمل لمدة 25 يوم بمقابل 1200 ليرة تركية (400 دولار)، إلا أن صاحب المطعم لم يعطه مستحقاته كاملةً فأعطاه 500 ليرة تركية فقط. عودة خليل إلى المخيم وبقائه بدون عمل جعله يبحث عن عمل حتى أخبره صديق له بأن هناك عمل برعي 28 بقرة في "بورسا" مقابل 1200 ليرة تركية لذا توجه إلى البلّدة.
 

خليل من قبائل "العساف" اختار تركيا هربًا من المجهول خاصًة وأنه منشق سابق عن الجيش العربي السوري أواخر 2011. كان في الخدمة الإلزامية بموجب السحب الاحتياطي، اضطر لدفع راتب شهر مقدر ب (11500 ألف ليرة سورية) آنذاك للضابط، كي يمنحه إجازة، وصل فيها إلى أهله ولم يُعُّد. هنا كان الباصان في "الاستراحة" ينتظراننا وكلانا متأخر عن رحلته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.