شعار قسم مدونات

مجرد جملة أشعلت فتيلاً لم ينطفئ

blogs - matchstick

في التراث الفلسفي كثيرة هي المواضيع والمشاكل التي تناولها كبار الفلاسفة واشبعوها شرحاً وتحيللاً، أحد أهم هذه المواضيع هو موضوع النفس هذا الشي الذي يتكون من أجزاء أو قوى أهمها وأرفعها هو العقل.
 

في العهد القديم وحتى المتوسط تم مناقشة مشكلة العقل من منظور وجودي وكانت المحاور تدور حول جوهر العقل بإعتباره أحد الموجودات وتتسائل عن طبيعته؟ علاقته واتصاله بالإنسان؟ واخيراً هل هو خالد أم فاسد؟
 

كتابُ أرسطو في النفس، قد أثار في تاريخ الفكر الفلسفي طوال العصر الوسيط من المشاكل والاهتمام ما لم يكد يثيره كتاب.. بسبب عبارة بسيطة وردت عرضاً عن العقل الفعال.

بينما في العهد الحديث تم النظر في موضوع العقل من منظور مختلف ألا وهو المنظور المعرفي مما أعطى القضية بعداً آخر شيق وبه كثير من الغموض أيضاً.

من أشهر الفلاسفة الذين تكلموا عن النفس وخصصوا لها وقتاً كبيراً هو الفيلسوف العظيم أرسطو في كتابه المخصص للنفس، بقدر ما أثرى هذا الرجل المجال المعرفي والفلسفي إلا أنه ترك خلفه فراغات واسعة وقضايا بدون نهاية كانت بداية حقبة خروج وتأويل عن فلسفته في النفس.

في شرحه لكتاب النفس لأرسطو يقول الأستاذ عبدالرحمن بدوي: كتابُ أرسطو في النفس، على براءة موضوعه قد أثار في تاريخ الفكر الفلسفي طوال العصر الوسيط من المشاكل والاهتمام ما لم يكد يثيره كتاب آخر من كتبه، ولم يكن هذا كله بسبب المذهب العام في الكتاب، بل بسبب عبارة بسيطة وردت عرضاً عن العقل الفعال ذكر فيها أرسطوعن هذا العقل: "ولست أقول إنه مرة يفعل، ومرة لا يفعل، بل هو بعد ما فارقه على حال ما كان، وبذلك صار روحانياً غير ميت".
 

أحدثت هذه الجملة وقعاً كبيرا لدى الشراح وشراح أرسطو في العصر الهيليني وما تبعه، وبدأ الكل يتسائل بدافع روحاني: هل أرسطوم من يقول ويؤمن بأن العقل عقل مفارق؟ وهل هذا يعني إيمانه بخلود النفس.

في نهاية القرن الثاني الميلادي وبداية القرن الثالث ثمة شراح تولوا مهمة شرح وتفسير ونشر مذهب أرسطو وتسويقه من جديد أمام المدارس الأخرى والتي كانت تعيش فترة إزدهار حينها مثل الرواقية، من هؤلاء ابن القسطنطينية ثامسطيوس، وممن تلقى تعليمه في ربوع أثينا والإسكندرية سمبليقيوس لكن أشهر شراح أرسطوعلى الإطلاق والذي وافقه في معظم اطروحاته لدرجة أنه لُقب بأرسطو الثاني هو ابن أفروديسيا من آسيا الصغرى الإسكندر الأفروديسي.

رغم اتفاق الإسكندر مع أرسطو إلا أنه انحرف عنه في مواضيع مهمة متعلقة بالنفس والعقل في كتابه الذي شرح فيه نظرية أرسطو في النفس، من هذا الكتاب استخرج العالم المسلم إسحاق بن حنين رسالته (العقل والمعقول) والتي أصبحت بمثابة منصة انطلق منها جميع فلاسفة الإسلام بعد ذلك في حديثهم ونظرياتهم عن العقل، يمكن القول أن هذه هي بذرة الاختلافات الكبيرة التي دارت بين العلماء حول العقل ومنهم الفيلسوف الإسلامي الشهير ابن رشد الذي يُعتبر إن صح التعبير هو من أعاد نشر فلسفة أرسطو في أوروبا من جديد.

ولا تزال تلك الجملة التي وضعها أرسطو عرضاً في إحدى شروحاته تثير كل باحث ومهتم في العلم الطبيعي بشكل عام أو علم النفس بشكل خاص أو العقل بصورة أكثر دقة.

يرى الإسكندر أن النفس لا فعل لها إلا بمشاركة الجسد حتى في التصور العقلي، العقل عنده مقسم إلى 4 أجزاء: الأول عقل هيولاني وأسماه كذلك لعلاقته بالهيولي، عند أرسطو يسمى هذا العقل عقل بالقوة. الثاني عقل بالملكة وهو عبارة عن أسس ومبادئ يعتمد عليها العقل في محاولته للإدراك والفهم، هذا العقل لا وجود له في فلسفة أرسطو. الثالث هو العقل الفعال الذي يجرد موضوعات الحس من المادة بفعل نوراني ويجعلها معقولة وبالتالي يُخرج العقل الهيولاني من القوة إلى الفعل. وأخيراً العقل المستفاد وهو عبارة عن إتحاد العقل الهيولاني بالعقل الفعال.

إلى هنا يمكن أن يفهم الجميع ويتفق مع تقسيم الإسكندر لكن الانحراف يكمن في أنه يرى أن النفس صورة الجسم وليس للهيولي في المركب وجود خاص أو مفارق وجميع وظائف النفس مرتبطة بتغييرات عضوية، فالنفس شئ من الجسم، وعلى ذلك فالعقل الهيولاني عقل فاسد بفساد الجسم، أما العقل الفعال فلما كان هو الذي يجعل صور الماديات معقولة فيجب أن يكون مفارق وليس متصل بالنفس وتأثيره يأتي من الخارج، إذاً العقل الفعال هو العلة الأولى، هو الله.. وهنا يظهر أنه غالي كثيراً.

في المقابل ثامسطيوس يختلف مع الإسكندر ويرى أن العقل الهيولاني جوهر مختلف ومفارق ومن ثم خالد لا يلحقه الفساد الذي يطال الإنسان، وهذا ما انتهى إليه ابن رشد بعد تمحيصه وتدقيقه لهذه الإشكالية.

ولا تزال تلك الجملة التي وضعها أرسطو عرضاً في إحدى شروحاته تثير كل باحث ومهتم في العلم الطبيعي بشكل عام أو علم النفس بشكل خاص أو العقل بصورة أكثر دقة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.