شعار قسم مدونات

هكذا قال الغريب

blog-الشانزيليزيه

هذه جادة الشانزيليزيه العريقة، الشهيرة في باريس، حيث يتربع قوس النصر على أعلى نهايتها المرتفعة قليلًا، في شموخٍ تاريخي يُذكر الزائرين بالعهد النابليوني الغابر.

أجلسُ وحيدًا على إحدى المساطب، أراقب المارة على الرصيف الواسع، هنا البشر لا نهاية لهم، قادمون من كل فجٍ عميق ليشاهدوا عاصمة النور التي تُشبه متحفًا عملاقا .

إن زمني هو زمن الشر المطلق الذي تُغلفه القوانين الدولية والمواثيق الممهورة بتوقيع المنتصرين

حجيجٌ ضخم من السياح الذين يأتون كل عام ليطفئوا رغبتهم بمشاهدة العاصمة الأوروبية الأجمل والتي نجت بأعجوبة من جنون النازية ونزعة هتلر التدميرية، التي دمرت كثيرًا من المدن الأوروبية في الحرب العالمية الثانية فكانت وبالًا على عاصمته برلين التي دمرها الحلفاء في ذلك الزمن الدموي .

هذا الشارع يجمع العالم كلهُ على أرصفته، كل ألوان الطيف البشري تأتي إلى هنا، كل الأعراق والأديان والملل والطوائف . هذا أميريكي، ذاك عربي، وهذا فرنسي، تلك آسيوية، هذه أفريقية، هذا أسمر وتلك شقراء، هذا طفلٌ وذاك شيخٌ كهل، كل الذين لا روابط بينهم يأتون إلى هنا فيربطهم هذا الرصيف الأنيق.

تتراكض ابتسامات الفتيات الجميلات أمامي، فأمعن بهن وأبحث عن ابتسامةٍ واحدة، أبحثُ عمن تتعثر بي، عمن تشتريني بقليلٍ من زوايا عينيها، فلا أجد، لأجدني أعود لمراقبتي منكفئا، مُرسلًا تنهدًا عميقًا كعاصفةٍ شرسة تخترق صدري وتُبعثره دونما رحمة.

رصيفٌ أنيق ومرتب، تصطف على جوانبه متاجر كبرى العلامات التجارية العالمية، إذ لا تكتمل هوية العاصمة الفرنسية دون ذكر تفوقها في مجال الموضة والأناقة والعطور، دون ذكر الجمال والرُقي والفعل الحضاري المغلف بأشرطة براقة كتلك التي تُعقد على أغلفة الهدايا..

أراقبهم بصمت، وأغوص مرةً أخرى في أغوار نفسي المُبعثرة، محاولًا قراءة ما يدور في طياتها، لأجري مقارنًة بين من اتخذ من الرصيف الجميل مزارًا مؤقتًا سيغادره بعد أيام مُحملًا بلحظاتٍ ممتعة وذاكرةٍ ملؤها الفرح، وبين من يرى هذا الرصيف رصيفًا للغربة .

لا شك أن هؤلاء السياح بشرٌ يحملون من الهموم ما يحملون، ويأتون إلى هنا ليشحنوا ذاكرتهم ببعض الجمال وبعض الأمل، ليشحنوا ذاكرتهم بالنسيان، وقد يُفلحوا في ذلك، أما أنا القادم من أرض اليأس وأرض الجحيم البشري اللانهائي، أنا قادمٌ من زمنٍ أكثر دمويةً من ذلك الزمن الذي نجت باريس من شرهِ.

أبقى أراقب إلى أن ينفجر السأمُ الرمادي في مخيلتي وينال رخام المسطبة من عظامي، وأتعب من فرط الجلوس

إن زمني هو زمن الشر المطلق الذي تُغلفه القوانين الدولية والمواثيق الممهورة بتوقيع المنتصرين، فقد شُحنت ذاكرتي بمزيجٍ من البشاعات والآلام التي ترسخت كصخرٍ عالقٍ في القاع، وليس لباريس ولا لأي مدينةٍ جميلةٍ القدرة على أن تموحها بسهولة..

يضجُ الرصيف المتطاول بالحياة، يضج بالأحاديث العابرة، التي تمر مسرعةً مع خطو الناس على حجارة المكان القديم، ورغم كل هذا الضجيج يبدو المكان معزولًا، يبدو محايدًا.. في الحقيقة لا يستطيع أن يكون منحازًا لأحد، لأن صفتهُ العالمية فرضت عليه أن يحترم هذا المزيج البشري الذي أتى لزيارته..

وأبقى أراقب إلى أن ينفجر السأمُ الرمادي في مخيلتي وفي نفسي، وينال رخام المسطبة من عظامي، وأتعب من فرط الجلوس.

فها هي الشمس المختبئة خلف الغيوم الكثيفة تُشارف على الغروب، وها هي نسائم أيلول الباردة تهب على استحياء في نهاية عمر الصيف وبداية عمر الخريف، ها قد عاد الخريف، وها قد آن الأوان لعودتي إلى البيت، لقد تعبت كثيرًا

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.