شعار قسم مدونات

في النقد (2)

blogs - book

محاولة تجاوز النقد، والحيل للالتفاف عليه كثيرة، ومن تلك الحيل ما تعرض له جوليان باجيني والذي تحدث عن "خديعة الحكمة"، والمقصود بها: تلك الأمثال التي يمكن الاستشهاد بها في التعليق على موضوع، والقدر هائل من الأمثال المتوفرة، والحِكم "المزعومة"، مما يكفي لتعطيل ملكة النقد، وجعل المرء يتعامل مع الواقع والفكر كآلات الصرافة البنكية، تضع فيه مدخلاً تعريفياً فيخرج لك ما يوازيها من النقود.

إن فشِل قال "من لا يعمل لا يخطئ"، وإن نجح قال "من جد وصل"، إن وصل دون تعب قال "رُب رمية من غير رامٍ" وإن خسر من المرة الأولى قال "الخطأ يمهد للصواب"، وإن فشل في الثانية قال "الثالثة ثابتة"، وإن ترك المحاولة قال "إذا لم تستطع شيئاً فدعه" وهكذا.. وهذا كفيل بتحويل الإنسان من كائن مفكر، إلى كائن مستحضر لكل مسموع يخفف عنه شكواه، أو يبرر له أفعاله.

إن وجود سلطة أو هيبة أو هالة حول العبارات التي تواجه النقد، هي أقوى في الفاعلية والأثر من العبارات نفسها.

سلطة اللغة تلعب هنا دورها، فبقليل من الحيل اللفظية، يعطي مثلاً متعارفاً عليه وكأنه صيغ بدقة عالية عبر الزمن: الأمر الذي يدفع إلى الافتراض بأن حكمة كبرى وراءه، فإن كان مسجوعاً زاد ذلك من سلطة المثل، وكأنه حجة بحد ذاته، إن الإحالة إلى نص مكتوب أياً كان ذلك النص، أو مثل متعارف عليه، أو بيت شعر، كفيل بإعطاء هالة حول الموضوع، وهو ما ينظر إليه الناقد نظرة ريبة وفحص.

كان ممن تنبه إلى سلطة النص المكتوب سعيد حوى، حيث ذكر أن قراءة لوائح من ورق مطبوع تعطي هيبة في نفس السامع للقوانين المذكورة، وهذا ما يفترض بالناقد أن يتنبه إليه، فسلطة النص -أي نص مكتوب- يفترض أن يتم تجاوزها في بحث صدق أو كذب المكتوب، وهو ما يفترض أن يمر على مذبح النقد قبل أن يتم هز الرأس له إيماءً بالموافقة عليه أو تمعر وجه لرفضه.

إن وجود سلطة أو هيبة أو هالة حول العبارات التي تواجه النقد، هي أقوى في الفاعلية والأثر من العبارات نفسها، التي لو تم تجريدها من تلك الهالة لكان نقدها أيسر على السامع، فسلطة الاحترام أو الرفض لشخص معين أو لسلوك معين، قد تعيق تماماً عن رؤية كثير من العبارات الممانعة للنقد، على سبيل المثال، تلك الجملة التي شاعت فترة في بعض الأوساط الإسلامية "لا يفتي قاعد لمجاهد"، هنا نجد هيبة واحترام فعل الأخير، استعملت كمبرر لرفض فتيا القاعد أياً كانت تلك الفتيا -صحيحة أوباطلة-، على أن هذه القاعدة ليست نصاً شرعياً ولا قاعدة فقهية، ولا حكما فرعياً مستنبطاً بقواعده، ونستطيع أن نقارنها بنص شرعي يقول "صدقك وهو كذوب" لمعارضة تلك السلطة المستعملة كعقبة أمام النقد، أو تلك العبارة المتكررة من كثير من العلمانيين "هذا تردي إلى السلطة الدينية – الثيوقراطية" لرفض أي نقد ولو كان صحيحاً كطلب إطفاء سيجارة منه في مكان عام.

الهيبة أو السلطة تتحرك بأشكال مختلفة بين الذات والموضوع، عبر التاريخ، والأعراف، والإيماءات لتشكل نظاماً يفرض نمطاً معيناً من الرؤية، بحيث تحجب بقليل أو كثير لرؤية الأمور كما هي عليه، واحدة من تلك السلطات هي السلطة الأبوية التي تعرض لها بالنقد جون لوك في كتابه المدنية، فإسقاط كثير من مفاهيمنا عن الأب في الأسرة على الصعيد السياسي، يمنع من الالتفات إلى السلطة السياسية بطريقة مختلفة عن رؤيتها كسلطة طبيعية أو جبرية كما هي في حال الأب مع ابنه، فالابن لا يختار أباه، يولد ووالده موجود، وبلوغ الأب وقصور الابن كفيل بجعل الأخير تابعاً لتربية وسلطة الأب.

إن الطريقة التلقينية في التعليم، تمسخ ملكة النقد عند الطالب، وتعزز قابلية التلقي والترديد، مما ينعكس على طريقته في الحياة فيما بعد.

إلى أي درجة كانت هذه السلطة مستثمرة في كثير من النواحي الروحية والسياسية والاجتماعية.. الخ؟ فكثيراً ما يبدأ القساوسة حديثهم باسم الأب، وهذا يحاكي أو يغازل مخيلة السامع بداية عن سلطة أبيه عليه، أو خطاب زعيم لأبنائه، أو حتى بعض الإسقاطات على بعض المرجعيات الدينية (سماحة الوالد فلان حفظه الله) علماً أن كل هذه الأمثلة لا يتوفر فيها ما هو موجود في حال الأسرة، وسلطة الأب فيها، فضلاً عن طبيعة الأب واختياراته لابنه باعتباره امتداداً له، فإن سلطته محكوم عليها بالانتهاء والانتقال بشكل طبيعي إلى أبنائه، بخلاف الأمثلة السابقة التي لا يشترط أن تنتقل أي سلطة فيها إلى من وصفوا بالأبناء.

سلطة الأب، تسمى منازعتها عقوقاً، وبالتالي سيُنظر إلى أي نقد على الصعيد الروحي، أو السياسي بوصفه خروجاً أو هرطقة لمحض المخالفة بقطع النظر عن صوابها أو بطلانها، على هذا الصعيد كان نقد باولوفريري لسلطة المعلم بطريقته الكلاسيكية، بحيث يقتل أي تفاعل بينه وبين الطالب، وهذا ما يؤدي إلى آلات الحفظ الصماء، التي تفرغ حمولتها على أسطر الامتحانات، وكأنها تستقيء طعاماً زائداً لا أن تلك المعارف هضمت ثم أنتجت طاقة لعمل ذهني، وهذا لا يتم دون تفاعل نقدي بين المعلم والطالب، فليست وظيفة المعلم تعزيز هالة أبوية في ذهن الطالب، بحيث ينتج ببغاء يردد مقولات المعلم، إن الطريقة التلقينية في التعليم، تمسخ ملكة النقد عند الطالب، وتعزز قابلية التلقي والترديد، مما ينعكس على طريقته في الحياة فيما بعد، ومن هنا كثيراً ما كانت طبقة النخبة المثقفة "الإنتلجنسيا" مدجنة وتبريرية للسلطة، بحيث تتغير أطروحاتها بتغير السلطة، فهي متأثرة لا مؤثرة، مبررة لا نقدية.

إن الطريقة التي تعرضوا لها عبر مراحلهم التعليمية، كانت طويلة بحيث وزعت أجزاؤها الإكراهية عليهم عبر سنوات الدراسة، بحيث لا يفطنون إلى مجموعها وأثره على نفسيتهم فضلاً عن الأثر على قدراتهم المعرفية، كما أن ارتباط حيازة المرتبة العلمية المعترف بها بالوفاق الكبير مع المعلم أو المحاضر أوالدكتور المشرف، بحيث ترتبط شرطياً مخالفته بتقليل فرص النجاح أو التفوق، مما يجعل من النقد مرتبطاً في أذهانهم بالفشل، وضياع المستقبل العلمي والمهني.

هذا ما سينعكس على العملية التعليمية الراجعة ممن تعلم بتلك الطريقة على الطلاب، إذ سيرى أن من العادل أن يخوض الطلاب كل ذلك الإكراه الذي مورس عليه قبل أن يصلوا بعده إلى المرحلة التي وصل إليها المعلم، ومن هنا يصنع هذا النمط من التعليم جيلاً محافظاً، يخشى المخالفة والنقد، ويرى أشباح العقوبات المعنوية والمادية تطارده كلما ذكر أمامه هذا الاسم "النقد".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.