من منا لا ينطق متحسرا بالجملة أعلاه كلما توقف في لحظة من لحظات حياته المنفلتة عبثا من قبضته، كراشد مثقل بالأعباء والهموم، ملتفتا نحو الوراء، في محاولة لإيجاد وحدة تصلح لقياس المسافة التي ابتعدها عن الطفولة.
تلك الحقبة السحرية التي لن نتوقف أبدا عن الحنين إليها، ذلك الفانوس الذي حين ندعكه تخرج لنا منه أطياف قهقهات وفقاعات ملونة وعفاريت صغيرة.. تلك الأجنحة التي ما إن نفكر فيها حتى تنبت فجأة على ظهورنا وتطير بنا بجنون نحو سماء بلا حدود.. ذلك العصر الذي كان فيه القلم الفكري والديني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي.. مرفوعا عنا.
لم نكن نعرف شيئا اسمه الضجر، لأننا كنا دائمي الاندهاش ويقودنا خيالنا، فكنا نفتن بأبسط الأشياء، كتسلل شعاع نور من ثقب في النافذة، وغيمة على شكل سمكة. |
فهل تساءلتم يوما لماذا كنا سعداء ومتشابهين؟ ما الذي تغير فينا؟ لماذا تتراجع سعادتنا كلما تقدمنا في السن؟ لماذا تصبح الصورة أمام أعيننا أكثر قتامة؟ كأطفال كنا دائمي الاستمتاع بالخبرات الجديدة، تتسع حدقاتنا لمرأى كل غريب، ونلقي بأنفسنا بدون قلق في يم التجارب والمغامرات.
بينما نتجنب الآن تجربة كل جديد خوفا من الفشل، وخوفا من الظهور بمظهر غير لائق أمام الآخرين. فكم من قرارات تراجعنا عنها خوفا من فشلها، وكم من أحلام أطفأنا شرارتها بداخلنا ظنا منا أنها تافهة، وكم من أشخاص ابتعدنا عنهم ظنا منا أننا لا نناسبهم، وكم من مقابلات عمل اعتذرنا عنها خوفا من التعرض للرفض، وكم من أشياء وافقنا عليها مكرهين كيلا نبدو مختلفين عن البقية، وكم من كلمات فضلنا تركها تعشش داخل صدورنا مخافة أن تتعرض لسوء الفهم!
كأطفال كان يصعب علينا الامتناع عن لمس الأشياء المحيطة بنا حين كان يتم أخذنا لمكان جديد، وكنا نتلقى اللوم من الكبار دائما جراء ذلك، لكن تلك كانت طريقتنا في الاستئناس بالأماكن الجديدة، وفي ربط صلة حميمية بمحيطنا كيفما كان، فنجلس على الأرض، و نختبئ تحت الطاولات، ونقف فوق الكراسي، ونستلقي بشكل عكسي فوق السلالم، ونلتصق بالناس.. بينما نتخذ الآن مكانا في أقل زاوية جذبا للأنظار مكتفين بالمراقبة، ومحافظين على مسافة كافية بيننا وبين كل الأشياء والأشخاص كلما وجدنا أنفسنا في مكان جديد، فنعمق بذلك شعورنا بالغربة والوحدة. لا أقول إنه عليكم كبالغين القيام بما سبق ذكره، لكن أعدكم أن الأمر سيكون في قمة المتعة، فقط تخيلوا..
كما كان يسهل علينا كأطفال إقامة علاقات جديدة دائما، لأننا لم نكن نولي اهتماما للتفاصيل ما دمنا مستمتعين بوقتنا، بينما نهتم كبالغين –محاطين بالشكوك والوساوس- بالخلفية الدينية والسياسية والاجتماعية والمستوى الفكري والفئة العمرية وكذا جنس الصديق المفترض، في محاولة منا للتنبؤ بالعمر المحتمل للعلاقة ورصد المكاسب والخسائر المحتملة، والانتهاء أخيرا بالتراجع عن الأمر برمته تفاديا لأي تورط في علاقة قد تنتهي بالفشل.
ولم نكن نعرف شيئا اسمه الضجر، لأننا كنا دائمي الاندهاش ويقودنا خيالنا، فكنا نفتن بأبسط الأشياء، كتسلل شعاع نور من ثقب في النافذة، مشهد نملة تجر حشرة أضخم منها، غيمة على شكل سمكة.. كانت لنا تلك القدرة الخارقة على خلق أشياء من اللاشيء، والاستمتاع بالأشياء البسيطة، فكم طاردنا بعضنا فوق خيول من خشب، وكم حلقنا بأذرع ممدودة..
كنا نستطيع أن نكون أي شيء، ملوكا، قططا، أطباء، أشجارا.. بينما أتعايش حاليا مع ما قاله لي شخص بالغ مؤخرا: "ألن تكفي عن الكتابة بسذاجة عن غروب الشمس؟ الشمس ببساطة لا تتحرك من مكانها لا لتغرب ولا لتشرق!".
كأطفال لم نكن نخفي أحاسيسنا عن الآخرين، كنا نبوح بمخاوفنا، وآلامنا، ومشاكلنا، ومشاعرنا تجاه العالم. كنا لا نجد ضيرا من الاعتراف بضعفنا، كنا نطلب المساعدة حين نحتاجها، ولا نخجل من ذلك. والآن نحس أنه علينا عيش تعاساتنا ومخاوفنا بمفردنا كي لا نبدو ضعفاء، كي لا يسخر منا الآخرون، كي لا يشمتوا بنا.
كما كنا نتمسك بالأشخاص الذين نحبهم، والأهم من ذلك كنا ندعهم يعلمون ذلك طوال الوقت، فنحتضنهم ببساطة، ونطبع على خدهم قبلاتنا الحارة بمناسبة أو بدونها. وحتما ستتذكرون مشهد تمسككم بشخص مغادر وأنتم أطفال، وكيف أنكم صرختم وانتحبتم وحاولتم بكل الطرق ثنيه عن عزمه. وبالمقابل فكروا الآن في الأشخاص الذين نتركهم يغادرون –بصفة نهائية- حياتنا بدون أن نحاول منعهم حتى، خوفا على كرامتنا وكبريائنا من الخدش.
الذين يقولون أنهم لم يحظوا بطفولة سعيدة ليتمنوا العودة إليها، أقول لهم ما قاله توم روبنز: "لا يفوت الأوان أبدا على عيش طفولة سعيدة". |
كأطفال كنا نلعب كثيرا، كنا نربط كل الأشياء باللعب، ونقيم جمالها وفائدتها بقابليتها لأن تصير لعبة. ومن أجمل وأصدق ما قاله جورج برنارد شو بهذا الشأن: "نحن لا نتوقف عن اللعب لأننا نكبر، بل نكبر لأننا نتوقف عن اللعب". وكمدرِّسة لغة عربية للأجانب، فإني دائمة البحث عن طرائق لجعل العقل البالغ –المشغول بأشياء أخرى- يكتسب لغة جديدة بفعالية، وأيقنت بالتجربة أن الطلاب يتعلمون بسرعة في البيئة التي يسودها اللعب والمنافسة والمكافأة، والتي تتطلب من المتعلم القيام من مكانه والركض والتمثيل..
ولن تتخيلوا الفرح الذي يشيع حين أقوم بدون سابق إنذار بتخصيص إحدى الحصص للتلوين وقراءة قصص الأطفال وتزيين الدفاتر بملصقات عليها شخصيات كرتونية وتناول الحلوى، في صف يدرس به أشخاص بالغون. فدعوني أسألكم: متى كانت آخر مرة استمتعتم فيها باللعب؟ متى كانت آخر مرة شاهدتم فيها فلم كرتوني؟ متى كانت آخر مرة ركضتم فيها بجنون؟ متى كانت آخر مرة قرأتم فيها قصة أطفال؟ متى كانت آخر مرة تواصلتم فيها مع الطفل بداخلكم؟
كأطفال كنا سعداء لأننا كنا -ببساطة- نعيش اللحظة ولا نفكر في الآتي، ولا نعير اهتماما لآراء الآخرين. كنا صادقين، ولا نسعى لتعقيد الأمور! لهذا قررت حمل طفولتي معي حيثما حللت، فالعالم في رأيي بحاجة إلى الأطفال. وحتى حين أنظر إلى الناس فأنا لا أرى راشدين، أرى أطفالا فقط، أطفالا مجبرين على التقدم في السن، على الانصياع، على الانتماء، على التقولب، على التخلي عن البراءة، على حمل السلاح، على الدفاع عن أشياء لا تعني لهم شيئا، على القلق، على الخوف من المستقبل.
توقفوا عن التقدم في السن، عودوا أطفالا، إنه الحل.. كما فكرت أيضا في أولئك الذين سيقولون أنهم لم يحظوا أصلا بطفولة سعيدة ليتمنوا العودة إليها، وإليهم أقول بالذات ما قاله توم روبنز: "لا يفوت الأوان أبدا على عيش طفولة سعيدة".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.