شعار قسم مدونات

المنطق القديم في ميزان السوسيولوجي (1)

blogs-المنطق

(1) يُقال في تعريف المنطق: أنه علم القوانين الذي يعصم الذهن عن الخطأ في التفكير، ويُقال فيه أيضا: أنه الميزان الذي تُقاس به الأفكار، والقدماء لم يعرفوا إلا منطق واحد والمتعارف عليه باسم "منطق أرسطوطاليس" وهو المنطق الكامل التام في نظر الأغلبية من الذين يتناولونه بشكل مباشر في دراستهم أو بشكل غير مباشر في حياتهم العامة، وهذا الرأي كان ولازال شائعا عنه.
 

فيقول الفيلسوف الشهير "كانط" عنه "إنه منذ أيام أرسطو لم يتراجع في المنطق خطوة واحدة إلى الوراء، وكذلك لم يتقدم إلى الأمام ولعله تم اعتباره على ما يبدو أن تاماً كاملاً." هذا الإقتناع الشديد بتمام منطق أرسطوطاليس لم يقتصر على الآباء الغربيين فقط، ولكنه انتقل الى مفكري المسلمين الأوائل.
 

ولم يختلف منهم على صحة هذا الكلام إلا العلامة ابن خلدون، وهو الوحيد الذي ثار على هذا النمط من التفكير، وقد حاول هذا المفكر العبقري والمؤرخ العظيم أن يهدم منطق أرسطو ويبني بدلا منه منطقاً جديداً يستند على الواقع الاجتماعي المُتغير ولكن لم يفهمه أحد وقتها، ولا ننسى مقولته الشهيرة التي ذهبت مع الريح وكأنها صرخة في وادِ مُعللاً رأيه في منطق أرسطوطاليس فيقول: إن صناعة المنطق غير مأمونة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع وبُعدها عن المحسوس.
 

منطق أرسطو عاملاً مهماً في عزل أصحاب الفكر عن الناس، فصنع طبقتين: الأولى طبقة جلست في برجها العاجي تتلذذ بالتأمل، والثانية طبقة بقيت منجرفة بتيار الحياة ونزاعاتها اليومية

بالفعل انتقلت قوانين المنطق الأرسطوطاليسي إلى الأجيال المسلمة لا شعورياً وبدون أي وعي، وقد يكون انقطاع المسألة البحثية من حياة الملسمين هي السبب الأهم في انتشار المنطق القديم بين جوانب تفكيرنا إلى الآن، وعلى عكس الغرب الذين قاموا بثورة فكرية ضخمة بعد نشأة العلوم الاجتماعية على قوانين منطقهم القديم، فمازلنا نحن إلى الآن نقوم بتدريس نفس القوانين في حلقات العلم ولقاءات الفلسفة وغيرها، نُدرسها وكأنها صورة كاملة تامة عن الكون والحياة كما كان يتم تدريسها في بلاد الإغريق عند نشأة هذا العلم.
 

يقول عالم الإجتماع د.علي الوردي في كتابه "خوارق اللاشعور": وقد تغلغل هذا المنطق في أعماق عقولنا بحيث أمسينا متأثرين به تأثراً لا شعورياً، فكثير منّا لم يدرس قواعد المنطق في حياته ولكنه مع ذلك يجري في تفكيره على النمط نفسه الذي يقتضيه منطق أرسطوطاليس، وهذا ناتج من تأثير الجو الفكري العام على أذهاننا، فنحن في طفولتنا نسمع الكبار يتجادلون ويكتبون ويخطبون على وتيرة معينة، هذه الوتيرة في عقولنا الباطنة ونبقى متأثرين بها طول حياتنا من حيث نشعر أو لا نشعر.
 

(2) ويدور منطق أرسطوطاليس حول ما يُسمى "القياس المنطقي" Syllogism، وتتلخص فكرة عمله في التسلسل من المقدمات إلى النتائج أو بمعنى آخر من المعلوم إلى المجهول، وذلك حسب قوانين (قوانين المنطق الثلاثة) تم صياغتها لخدمة هذا القياس، وسنقوم معاً بمناقشة هذه القوانين في سطور الجزء الثاني.
 

لنعُد مرة أخرى إلى القياس المنطقي، حيث يقوم المناطقة بإعطاء مثال شهير لتوضيح مقصدهم من التسلسل (من المعلوم إلى المجهول) فيقولون "كل إنسان فان، وسقراط إنسان، إذاً فإن سقراط فان" هذا هو النمط الفكري الذي يتميز به منطق أرسطو، وهذا منطق شائع جداً في تفكيرنا ويغلب على أكثر أحاديثنا.
 

و هنا سنقف لتوضيح أمراً هام، وهو أن السوسيولوجيا "العلوم الإجتماعية" ترى إشكاليات ضخمة في البنية الأساسية التي قام عليها هذا المنطق، وذلك لأن النتائج التي يؤدي إليها هذا المنطق هي نتائج بعيدة كل البعد عن الحياة الواقعية، لذا فإن بعض علماء السوسيولوجي أطلقوا على هذا المنطق "منطق البرج العاجي" فهو ليس بالمنطق الذي يسعى للوقوف على المشكلات الاجتماعية وحلها، ولكنه عبارة عن مجموعة من القوانين التي أخذت صور ثابتة عن الكون والحياة في حين أن الحياة تعتمد في بنيتها على الصيرورة الدائمة والحركة المستمرة.
 

و أعتقد أننا لو نظرنا إلى الظروف الاجتماعية والفكرية التي أحاطت بنشأة هذا المنطق، بدايةً من ظهور جماعة السوفسطائيين والذين توصلوا إلى حقيقة مؤداها: إن الحقيقة نسبية غير مطلقة وإن مقياس هذه الحقيقة هو الإنسان بمصالحه ورغباته وشهواته، وبالتالي فإنهم جعلوا من الإنسان مصدراً للحقيقة المتغيرة بتغير مصالحه ورغباته، ثم وقوف سقراط ضدهم ثم أفلاطون من بعده، ثم اكتمال قوانين المنطق على يد أرسطو من بعدهم، وكان هذا المنطق هو الضربة القاضية على الحركة السوفسطائية، ونصراً لفسلفة أرسطو التي تؤمن بحقيقة واحدة فقط وهي الحقيقة المطلقة وعلى قدرة العقل البشري من النظر فيها والوصول إليها.
 

نعم للأسف انتصر منطق أرسطو، وأصبح لفظ السفسطة ذماً لا يتمنى أي إنسان أن يُوصف به! يقول الدكتور علي الوردي في كتابه "خوارق اللاشعور": لعلنا لا نُغالي إذا قلنا بأن انتصار منطق أرسطو واندحار الفلسفة السوفسطائية كان من سوء حظ البشرية، فالسفسطة فلسفة لا تخلو من صواب وهي تُمثل وجها لا بأس به من حقيقة الكون. ويقول "مانهايم" أيضا:إن الحقيقة نسبية ومطلقة في آن واحد، أو هي بعبارة أخرى ذاتية وموضوعية معاً.

كان فلاسفة الإغريق من أصحاب العبيد، فكانوا غير مضطرين للتفكير في معائشهم أو في كيفية الحصول على رزقهم، إنهم لم يعانوا من مشاكل الحياة ما يجعلهم يفكرون فيها تفكيراً جدياً

فقد كان انتصار أرسطو سبباً ضخماً في جعل المفكرين يشتغلون بالنظر في جانب واحد من الحقيقة وهو الجانب المطلق، وأهملوا الجانب الاخر الذي له نفس الأهمية، وبالتالي فقد كان منطق أرسطو عاملاً مهماً في عزل أصحاب الفكر عن الناس، فصنع طبقتين منفصلتين:
الأولى طبقة جلست في برجها العاجي تتلذذ بالتأمل في الحقيقة المجردة.
والثانية طبقة بقيت منجرفة بتيار الحياة ونزاعاتها اليومية، وكل آمالها أن تستطيع التكيف مع وقائع الحياة وحقائقه المتغيرة يومياً.

و هنا نختم الجزء الأول من هذه المقالة بالإشارة البليغة التي أسردها د. الوردي في كتابه السابق ذكره، فيقول:
إن المستقرئ لتاريخ العلوم المختلفة قد يندهش حين يرى العلوم الإجتماعية نشأت متأخرة بالنسبة للعلوم الطبيعية، والواقع أن من أهم العوامل في تأخرها هو انتشار هذا المنطق الذي اهتم بالحقائق المطلقة وأهمل الحقائق النسبية. إن العلوم الإجتماعية تحاول دائما أن تنزل إلى الواقع المتغير لتكتشف قوانينه، أما المناطقة فيرون في هذا النزول ضعة وتسفلاً لا يليقان برجُل الفكر.

إن المفكر "في زعمهم" أجلّ وأسمى من أن يشغل أوقاته الثمينة بما يفعل عامة الناس وما يفكرون به من أمور طارئة لا تكاد تظهر حتى تختفي. لقد كان فلاسفة الإغريق من أصحاب العبيد، فكانوا غير مضطرين للتفكير في معائشهم أو في كيفية الحصول على رزقهم، إنهم لم يعانوا من مشاكل الحياة ما يجعلهم يفكرون فيها تفكيراً جدياً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.