وليمة من المعاني الفنية.. ماذا تعرف عن عصر الباروك ولماذا اشتهر؟

انطلقت حركة الباروك في إيطاليا وانتشرت فيما بعد في جميع أنحاء أوروبا (شترستوك)

رغم أن المنعطفات التاريخية المؤثرة في تاريخ الفن كثيرة ومتعددة، فإن عصر "الباروك" يأتي على رأسها كعلامة فارقة في تاريخ الفن والثقافة. وامتدت تلك الفترة من القرن الـ17 وحتى النصف الأول من القرن الـ18.

وقد أعاد الباروك تشكيل وجه العمارة والأدب والموسيقى والنحت والتصوير الفني في تلك الفترة.

وانطلقت حركة الباروك في إيطاليا وانتشرت فيما بعد في جميع أنحاء أوروبا، وازدهرت بشكل خاص في فرنسا وهولندا وإسبانيا، وقد وصلت بُعيد ذلك لبقية دول أوروبا.

وكانت حركة فنية وفلسفية تهدف إلى تجسيد الحركة والحياة والمعاني العميقة بأكبر قدر ممكن من الدراما والملحمية.

كنيسة القديس نيكولاس الباروكية في براغ – التشيك (شترستوك)

العمارة الباروكية

في مجال العمارة، بنيت الكنائس والقصور والقلاع والمسارح والأماكن العامة بأسلوب دسم وفريد من نوعه. وتميزت هذه المباني بكثرة استخدام الرخام والتجاويف والانحناءات المعقدة وتفاصيل الديكور المزخرفة. وكانت الألوان زاهية وغنية، مما يضفي طابعا دراميا وروحانيا على المنشآت الباروكية.

على سبيل المثال لا الحصر، يعد قصر لوكسمبورغ، الذي يُعرف اليوم بمجلس الشيوخ الفرنسي، والذي بُني في العاصمة الفرنسية باريس عام 1620، تجسيدا معماريا لفلسفة الباروك التي ركزت على الفخامة وثراء التفاصيل وضخامة المبنى واستخدام القباب والتي نُقلت إلى أوروبا من العالم الإسلامي في القرون الوسطى.

ويتميز المبنى بطول السلالم وارتفاع السقوف والجدران المزخرفة والمزينة إما بمنحوتات أو لوحات؛ وهو تقليد باروكي بامتياز.

بالإضافة إلى ذلك، اهتمت العمارة الباروكية بكثرة استخدام المرايا داخل المباني لتضاعف مساحة المكان، ولو بشكل وهمي، لتعطي إحساسا بالسعة.

أدب الباروك

كتب العديد من الكتاب والشعراء في هذا العصر بأسلوب خطابي ملحمي. وتعرف الأعمال الأدبية الباروكية بالتعقيد والغموض والإسهاب في الوصف بحكم طبيعة المرحلة الثقافية الغارقة في إبراز التفاصيل والثناء عليها.

وكانت تلك الأعمال نابعة عن وعي ذاتي بالخطاب الثقافي السائد آنذاك. وكَثُرَ استخدام المجاز والاستعارات الملحمية. كما كان هناك ميل للمبالغة والمفارقة في تسلسل الأحداث على طول الحبكة.

وتعد الملحمة الشعرية "الفردوس المفقود" (Paradise Lost)، التي كتبها الشاعر الإنجليزي جون ميلتون (1608-1674)، بالنسبة للعديد من علماء اللغة إحدى أعظم القصائد في تاريخ اللغة الإنجليزية.

وتتكون القصيدة من 10 مجلدات في طبعتها الأولى، و12 مجلدا في الطبعة الثانية، وتحكي قصة خروج آدم وحواء من الجنة والمعركة طويلة الأمد مع الشيطان.

ويقول ميلتون في الفردوس المفقود "نهاية كل التعلم هو معرفة الله، ومن هذه المعرفة نتعلم كيف نحبه ونتشبه به".

موسيقى الباروك

في مجال الموسيقى، تم تطوير العديد من الآلات الموسيقية والتقنيات الجديدة لإبراز عمق الأصوات وقوتها. لذلك خرجت الموسيقى الباروكية مفعمة بالتركيبات المعقدة والإيقاعات الحيوية والتناغمات الثرية.

ومن أشهر المؤلفين الموسيقيين في هذا العصر يوهان سيباستيان باخ وجورج فريدريك هاندل وأنطونيو فيفالدي.

نستمتع مثلا في رحلة باخ الموسيقية مع التشيلو بعمق وجمال الآلة في 6 حركات، تُظهر كل منها إتقان باخ للنقطة التالية والأفكار الموسيقية المبتكرة التي تأسر المستمع بسحرها وتعقيدها التقني.

تلك التحفة الخالدة لا تزال مصدر إلهام ومتعة رغم انقضاء 4 قرون على عزفها.

التشكيل الباروكي

كبقية مجالات الإبداع اشتهرت الفنون التشكيلية، مثل النحت والرسم، بدقة وثراء التفاصيل. وقد ظهرت أعمال كثيرة تتناول في مجملها المعاني الدينية وملامح الفخر والجمال.

ويشتهر الفنانون الباروكيون بدقتهم في استخدام الضوء الطبيعي لإبراز الظلال الداكنة وبالتالي إضافة أبعاد على اللوحات. وقدم العديد من الفنانين البارزين مثل رمبرانت وبول روبنز وبيتر بول روبنز أعمالا مذهلة في ذلك العصر.

لذلك تعد لوحة "وردية الليل" (The Night Watch)، التي رسمها الفنان الهولندي رامبرانت عام 1642، مثالا بارزا على عمق الأسلوب التشكيلي في عصر الباروك.

واللوحة هي صورة جماعية لمليشيا مدنية، وقد استخدم الرسام الضوء والظل بحرفية ومهارة في اللوحة ليُظهر فخرهم وصداقتهم الحميمة.

جدير بالملاحظة أن لعبة الضوء والظل تلك لا تلفت الانتباه إلى الشخصيات المركزية فحسب، بل تخلق أيضا إحساسا بالغموض والترقب، والذي بدوره يعطي إحساسا بالدراما والحركة؛ فيجذب العين إلى المشهد.

تضفي الألوان النابضة بالحياة والتفاصيل المعقدة ملمسا حيويا على الشخصيات فيجعل اللوحة بأسرها وليمة بصرية للمشاهد. وتكوين اللوحة متوازن بحكم خبرة رامبرانت؛ فنراه يصنع وضعا إستراتيجيا للشخصيات تارة، ولمسة دراماتيكية باروكية تارة أخرى، وكلها تخدم الغرض نفسه وهو إظهار العمل متكاملا وكأنه قصة واحدة.

وأحد الجوانب المثيرة للفضول في "وردية الليل" هو تحول رامبرانت عن تصوير بطل للعمل؛ فعلى العكس من ذلك، يصور كل فرد في اللوحة بنفس الأهمية. ويُظهر هذا الانحراف عن القاعدة رؤيته التقدمية وحساسيته الفنية في خضم عصر الباروك.

لقد عُرف عن الباروك أنه أسلوب من التفاني الشخصي في التعبير سواء باستخدام الرسم أو الموسيقى أو الكتابة؛ مما جعله عصرا متميزا وقيما في تاريخ البشرية، كما تميز بثراء الإنتاج تماما كثراء التفاصيل.

وقد ساهم تطوير الأساليب والتقنيات الجديدة في تلك الحقبة في ظهور مدارس فنية أخرى مثل الروكوكو.

المصدر : الجزيرة