"رحيق عطلة صيف".. رحلة أخيرة في الذاكرة واكتشاف لممثل مختلف

بوستر فيلم رحيق عطلة صيف تصميم الجزيرة
بوستر فيلم "رحيق عطلة صيف" (الجزيرة)

بعنوان شاعري للغاية "رحيق عطلة صيف" (Aftersun) تعد المخرجة شارلوت ويلز مشاهديها بتجربة ناعمة وحزينة، إذ لن يشاهدوا ممثلين يصرخون على بعضهم البعض، أو طلقات نارية، أو رجال عصابات يتشاجرون بالأسلحة البيضاء، فقط أب وابنته ورحلة مجازية وحقيقية في آن واحد.

فيلم "رحيق عطلة صيف" هو العمل الأول لمخرجته الشابة، عُرض في مهرجان كان السينمائي وفاز بجائزة "فرينش تاتش" (French Touch) لأسبوع النقاد، وترشح بطله بول ميسكال (27 عاما) لعدة جوائز، منها جائزة أوسكار لأفضل ممثل في دور رئيسي، والتي خسرها لصالح بريندان فريزر عن أدائه في فيلم "الحوت".

هل الكنز بالفعل في الرحلة؟

يفتتح فيلم "رحيق عطلة صيف" بمشاهد مصورة على كاميرا فيديو منزلية، الابنة تصور والدها رغما عنه وهي تضاحكه، وبالتدريج يعرف المشاهد أنها تدعى "صوفي"، فيما الأب "كالوم"، وهما في رحلة إلى تركيا وحدهما للاحتفال بعيد ميلاد كل منهما.

في تسعينيات القرن الماضي وبدون الهواتف المحمولة ووسائل التواصل الاجتماعي وفي مكان هادئ بلا أحداث كبرى يصبح المسرح معدا لرحلة المشاعر التي يمر بها كل من الأب وابنته.

تم تصوير الفيلم كصورة من الذاكرة، ومع الوقت يكتشف المشاهد أنه يراقب تجربة استعادة ذكريات تقوم بها البطلة صوفي الشابة بعد سنوات من هذه الرحلة، وحدها في منزلها مع ابن رضيع، تستخدم المشاهد المصورة لتعينها على فهم الأب الحاضر في الماضي والغائب في الحاضر.

لا يعطينا الفيلم معلومات محددة عن مشاعر ومصير أبطاله، بل أن بناءه يتشابه مع طريقة تفكير العقل البشري الذي تأتيه الذكريات على شكل دفقات من الصور والروائح والأحاسيس غير مرتبة بتسلسل زمني واضح.

تطرح المخرجة أفكارها عن علاقة الأبوة والبنوة وتوارث الجينات بشكل سلس عبر صورة سينمائية حالمة استغلت فيها المناظر الطبيعية في تركيا، واستعانت بتقنيات تصوير استعادت عبرها بصريا العالم في التسعينيات.

صوفي في الـ11 من عمرها، فيما الأب في الـ31، كل منهما على عتبة عام جديد، كل منهما يودع عقدا ويدخل آخر، صوفي ضائعة بين عالمي الطفولة والمراهقة، فيما الأب يعبر في أحد المشاهد عن اندهاشه من عيشه كل هذا العمر، ويظهر في المشاهد التالية كما لو أنه يغالب الموت فقط من أجل ابنته.

صوفي المرأة الناضجة التي تستيقظ في شقتها بعد سنوات لتلمس بقدميها السجادة التركية التي اشتراها الأب خلال رحلتهما لأنها تحمل له بعض السلام، تعلم أن ما عرفته وقتها عن والدها ليس هو الحقيقة الكاملة، وما تعرفه الآن ليس كذلك أيضا.

إن كالوم هو خليط من ذكريات الطفولة ومعرفة النضوج، وفيلم "رحيق عطلة صيف" يحاول إعادة بناء هذه الشخصية المحورية في حياة ابنته، ويساعدها على أن تنظر إلى ماضيها بعدسات أكثر نضجا، وترى الألم الذي كابده وحيدا وكيف ورثته منه وتخاف أن تورثه لأولادها.

بول ميسكال وشاعرية الاكتئاب

بول ميسكال (بطل الفيلم) ممثل أيرلندي درس التمثيل في أكاديمية لير، ومثل على مسارح دبلن قبل أن يؤدي دورا أدخله عالم الشهرة في مسلسل "أناس عاديون" (Normal People)، وحصل بسببه على جائزة "بافتا تي في" (BAFTA TV)، ثم أدى أول أدواره السينمائية في فيلم "الابنة الضائعة" (The Lost Daughter)، وبعده "مخلوقات الله" (God’s Creatures)، ليصبح "رحيق عطلة صيف" ثالث أفلامه فقط، والذي جعله محط العيون منذ الآن فصاعدا بعدما أصبح مرشحا سابقا للأوسكار.

قدم ميسكال دور الأب كالوم، وهو شاب يتضح بسهولة أنه أنجب مبكرا، لم ينضج هو شخصيا بما فيه الكفاية ليعين ابنته على اجتياز المرحلة الصعبة التي تمر بها، يحاول طوال الوقت أن يكون أبا متفهما وداعما ولطيفا، ولكن بنظرة سريعة له نفهم أنه يعاني نفسيا، يملأ غرفته بكتب وشرائط فيديو عن الصحة النفسية، ويمارس اليوغا للسيطرة على اكتئابه الواضح.

رحلة البطلة صوفي هي محاولة اجتياز هذا الحاجز الزجاجي ما بين الأب المثالي الذي ظهر لها من الخارج خلال رحلتهما إلى تركيا، والاضطراب الداخلي الذي يعيشه ونراه بوضوح في المشاهد التي تغيب فيها الابنة، مثل تدخينه سرا في الشرفة أو نزوله إلى البحر المظلم كوحش ينتظر ضحيته.

تتوحد كل من الصورة الحقيقية والخيالية للأب كالوم في المشاهد الختامية الحقيقية والمتخيلة والربط عبر الصور المتقطعة والمضطربة بين مشهد الرقص في الليلة الأخيرة في الفندق الذي جمع الأب وصوفي الطفلة، وتخيل صوفي الناضجة والدها يرقص معها في المرحلة العمرية ذاتها ولكن مرتديا الملابس نفسها التي شاهدته فيها لآخر مرة.

تصل البطلة هنا إلى يقين ما حول والدها، ويصل المشاهد مثلها إلى يقين قد يختلف، فالفيلم يترك الباب مفتوحا للتأويل، ويجعل المشاهد يتساءل: هل يعلم بالفعل حقيقة المقربين منه؟ هل الصورة التي نراها من الخارج تشبه صورهم الداخلية؟

بمقارنة سريعة بين أداء بول ميسكال دور كالوم الأب المكتئب، وبرايندان فريزر في دور "تشارلي" الأب الذي يعاني من السمنة الزائدة التي تكاد تودي بحياته نجد أن كليهما أب على المحك، في نقطة فاصلة بين الحياة والموت يجذبه الاكتئاب والحزن إلى هوة مرعبة.

لكن بينما اختار ميسكال تقديم دوره بأداء هادئ لا تظهر فيه مشاعره سوى بنظرات عيونه أو لغة جسده فإن فريزر الفائز بالأوسكار قدم أداء مليئا بالميلودراما، وعبر عن مشاعره طوال الوقت بشكل واضح عبر الحوار الذي لم يترك فرصة للمشاهد لقراءة مشاعره.

ربما خسر ميسكال الأوسكار عن دوره في "رحيق عطلة صيف"، لكن السينما فازت بممثل يستطيع التعبير عن أفكار شخصيته دون كلمات، وستكون له مكانة كبيرة في السنوات القادمة.

المصدر : الجزيرة