"قبل والآن وبعد ذلك" يحكي ماضي المرأة الإندونيسية في الحقبة الشيوعية

تقدم المخرجة مجموعة من اللحظات العاطفية في مشاهد خاطفة، تشكّل خيالات بطلاتها وواقعهن دون أن يدرين، وتقف الذاكرة في كل أفلامها كشاهد على عنف مستتر بالمجتمع، يبدو هذه المرة جليًا من أثر حرب عاشتها البطلة قبل أن تنتقل لحياة مريحة لا تنفعها كثيرًا.

هابي سلمي في دور نانا (اي بي دي ام).
هابي سلمي أدت دور نانا بالفيلم الإندونيسي "قبل والآن وبعد ذلك" (آي بي دي إم)

ضمن عدد من الأفلام التي قدمت حياة سيدات من دول مختلفة، جاء "قبل والآن وبعد ذلك" للمخرجة كاميلا أنديني كفيلم استثنائي مبشر في إطار عروض مهرجان البحر الأحمر في دورته الثانية التي انتهت قبل أيام، والذي يسرد حياة سيدة تعيش واقعا أليما.

يحكي الفيلم قصة "نانا" (الممثلة هابي سلمي) وهي شابة لطيفة وجميلة، تهرب من حملة تطهير عنيفة ضد الشيوعية الحمراء في إندونيسيا. تدخل في صراعات طويلة للهروب من حياة الحرب القاتمة، وتعيش بشكل مريح زوجة ثانية لرجل ثري.

تعتقد البطلة أنها هربت من تأثير الحياة السابقة المليئة بالخوف والألم، لكن الماضي يهاجمها، وتعود إليها مخاوفها كسيدة في مجتمع لا يعطيها حقوقها، تكشف الصراعات هنا عن السعي للهروب من ماض قد لا يمكن الهروب من سيطرته أبدًا.

مأساة مكررة

يطرح الفيلم منذ البداية ظلًالا لتنويعات بصرية مختلفة لأحداث قاسية بسبب الحرب، ويستعرض حياة مرعبة برغم الهدوء الظاهر. تبدأ المشاهد صامتة لفترة قبل أن تفتح البطلة عينيها فجأة لتتنفس بشيء من الراحة بعد أن أدركت أنها تحلم، وأن الجحيم الذي اعتقدت أنها تعيشه ليس حقيقيًا.

هابي سلمي وابنو جميل في قبل و الآن وبعد ذلك (اي بي دي ام)
سلمي وجميل بالفيلم الإندونيسي "قبل والآن وبعد ذلك" (آي بي دي إم)

تتلصص الكاميرا على الأبطال عبر قطعات مونتاج خفيفة تكاد لا ترى. ويشمل العمل مشاهد هادئة لكنها تنطوي على العنف في الوقت ذاته. وتساعد الموسيقى على الغوص أكثر داخل رأس بطلات يقل كلامهن على حساب تأمل أكبر للواقع والحلم. وتتسرب الموسيقى من خلال بعض أصوات الغابة الحية كشاهد أبدي على الجميع.

وتبدو أنماط فساتين البطلة بمثابة نقطة التقاء بالنباتات والزهور التي تزين المساحات المنزلية بأناقة.

وتوحدت البطلة مع البيئة الهادئة التي تعيشها، فأكدت وجود حياة جميلة، خلاصها الوحيد بالتخلي عن الذاكرة القديمة، وجاءت حركتها الواثقة بين الشجر والطبيعة بفساتين رقيقة، وتمشيط شعرها ببطء لتمنح الفيلم إيقاعا داخليا خاصا.

الرجال في سينما المخرجة أنديني يقدمون أدوارا مساعدة تعبر عن شخصيات درامية نمطية ورجعية في كل أحوالها تعبيرا عن رؤيتها الشخصية لوضع مجتمعها الذي يتميز في الفيلم بحركات بطيئة وغموض ذكوري يسبق المأساة، بينما تميل المرأة للوضوح والصمت ومحاولة النجاة من هذا الواقع.

وراهنت المخرجة على تعبيرات وجه بطلتها المتأمل لكل شيء حوله، وجه ثابت وملامح حادة لا تتحرك كثيرًا ولا تبدي أي مشاعر ظاهرة.

وتقدم مجموعة من اللحظات العاطفية الخاطفة التي تشكّل خيالات بطلاتها وواقعهن دون أن يدرين، وتقف الذاكرة في كل أفلامها كشاهد على عنف مستتر بالمجتمع، يبدو هذه المرة جليًا من أثر حرب عاشتها البطلة قبل أن تنتقل لحياة مريحة لا تنفعها كثيرًا مع خيال لا يزال متأثرا بالحرب ومجتمع لم يرحمها حتى قبل وجود تلك الحرب.

ويأخذ الفيلم تسميته من استمرارية مشاعر الألم التي تبدو في حياة البطلة لا تفارقها "قبل والآن وبعد ذلك" شعور متواصل من الخوف الظاهر والمخفي، لكنه على كل حال سيظل إلى الأبد.

ولا ينتهي السياق الذي تحدث فيه هذه القصة، حيث إندونيسيا الستينيات التي شكّلتها القبضة الحديدية للحكام. ويبدو أن التاريخ الذي يُكتب دائمًا بدماء الأبرياء يترك لنا بهذه الحالة أثرًا في نساء هذا المجتمع قبل رجاله.

وبدأت مأساة إندونيسيا بالاستعمار الهولندي، ثم الاحتلال العسكري الياباني، ثم دعاية شيوعية، وشهدت معارك مستمرة عبر تاريخ طويل مجحف للمجتمع، وتحديدًا للمرأة.

ويرى ميزان النقد لدى الكثيرين أفلام أنديني نسخة نسائية من سينما المخرج وونغ كار واي، حيث اللقاءات المعلقة والحركة البطيئة والحلقات الموسيقية التي ترتقي برومانسية اللحظة قبل حدوث المأساة.

مشهد من فيلم قبل والآن وبعد ذلك(سي ان ان اندونيسيا)
مشهد من "قبل والآن وبعد ذلك" (سي إن إن إندونيسيا)

تجليات مختلفة

قدمت المخرجة الإندونيسية فكرة قابلة للتكرار في قوالب مختلفة بأفلامها، منذ بداياتها حتى فيلمها الأخير "قبل والآن وبعد ذلك" الذي حاز على إعجاب نقدي لافت.

في أول أفلامها  "المرآة لا تكذب" قدمت قصة فتاة من قبيلة باجو بمنطقة واكاتوبي الإندونيسية تذهب إلى عراف في منطقتها، ليقوم بأداء طقوس باستخدام مرآة، يعتقد السكان المحليون أنه يمكنهم رؤية ما يحلمون به.

وبشكل سريالي فانتازي، تصبح المرآة في الفيلم كاشف أحوال مجتمعها بمختلف شخصياته دون أن تدري.

أما في فيلم "يوني" فقدمت فيه قصة فتاة بالاسم ذاته، السنة الأخيرة من دراستها الثانوية، طالبة إندونيسية ذكية مصممة على متابعة تعليمها ومقاومة الزواج رغم توقعات مجتمعها، وهي أيضًا تكشف مجتمعها المحافظ وشخصياته دون أن تدري كثيرًا أو تحاول الدخول في صراع.

وفي العملين تسعى البطلة إلى البُعد عن الدخول في صراع مع المجتمع، بينما يظل تأثيره التقليدي دون إرادة، أما في فيلمها الجديد "قبل والآن وبعد ذلك" فتقدم بطلاتها كدليل على مجتمع لا يقبل أفكارهن كسيدات عن التقدم والمساواة، ويميز الرجل، كما تقدم المرأة كسبيل نجاة وحيد لهذا المجتمع بحسب رؤية المخرجة.

المصدر : الجزيرة