جذور الصورة النمطية للإسلام في مخيلة الغرب

أصبح الإرهاب عنوانا بارزاً يبرر للاستعمار الجديد الذي يريد السيطرة على الشعوب وابتزازهم بطابع يغلب عليه النفوذ والهيمنة. عزز من ذلك الحالة التي آل إليها الوضع الدولي من حيث عدم الاتزان في القوى، وكون المصلحة أضحت المحدِد الرئيسي لعلاقة الدول بعضها ببعض، على حساب المبادئ والقيم.

ولكن الإرهاب ليس وليد الساعة، ولا هو حكراً على فئة أو معتقد دون آخر، فهو التهمة الجاهزة التي تعاقبت على استخدامها الأمم القوية، لتصف أي أعمال عنف ارتكبها الأعداء ضدها. وقد يستخدم دعائياً لمواجهة عنف بسيط بآخر مفرط، أو لتحقيق مكاسب وأهداف سياسية معينة من خلال المبالغة في تقييمه، إلا أن استخدام الإرهاب كتهمة لرمي الإسلام وأتباعه، وإظهاره كصفة ملازمة له ليس بالأمر الجديد.

فحين قدم الإسلام وبدأ يتوسع وينتشر على حساب المسيحية أرضاً وإنسانا، واجهته المسيحية بداية بخليط من مشاعر الرهبة والدهشة. وأمام عجزها عن الحد من تقدمه وانتشاره، لم يكن لها من خيار إلا أن تبدأ نسج الشائعات والصور المسيئة لهذا الدين الجديد وأتباعه.

إعلان

كانت أولى الصور النمطية التي نُسِجت للصورة المسيئة تتمثل في اعتبار الإسلام ديناً وثنياً، أو في أحسن الأحوال نسخة محرفة وشيطانية من المسيحية، وأن نبوة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- مشكوك في صحتها ومصداقيتها، وأن هناك ما يثبت من كتبهم أنه المسيح الدجال بعينه، وأما أتباعه فقُدّموا إلى ساحات الوعي المسيحي باعتبارهم محاربين شرسين ومتوحشين، يمثلون كل أنواع العدوانية ويقومون بكل أنواع العنف والتنكيل.

تلك الصور الشائعة للإسلام كانت نتاج الأدبيات التي وضعها رجال الكنيسة وبطاركتها، فرجال الدين كانوا هم من يمتلكون مفاتيح المعرفة ويتكفلون بتربية المؤمنين بكتاباتهم ودعواتهم.

تقديم الإسلام على أنه دين وثني، الهدف منه شيطنة الإسلام وإثارة الخوف المخزون في العقلية المسيحية من انتعاش الوثنية التي ظلت مهددة للمسيحية على مدى قرون، علاوة على تقديم المسلم بالعنيف والمتوحش، وهو ما يعبر عن جهد تعبوي يشعر التابعين بالخطر المحدق بهم
إعلان

كان الهدف من تلك الصور التي نسجها رجال الدين، هو تكوين متخيل جمعي يعلي من شأن الذات وينتقص من الآخر ويشيطنه. اعتقد رجال الكنيسة أن ذلك سيحد من انتشار الإسلام وانحساره، ولذلك فإن رجال الدين حين ركزوا على شخص النبي عليه الصلاة والسلام، كانوا يعتقدون أنهم سيحطمون البناء الإسلامي بذلك.

أما تقديم الإسلام على أنه دين وثني فالهدف منه شيطنة الإسلام وإثارة الخوف المخزون في العقلية المسيحية من انتعاش الوثنية التي ظلت مهددة للمسيحية على مدى قرون، علاوة على تقديم المسلم بالعنيف والمتوحش، وهو ما يعبر عن جهد تعبوي يشعر التابعين بالخطر المحدق بهم، ويملي عليهم ضرورة الاستجابة والتحرك لمحاصرة ذلك الخطر واستئصاله. ولقد كان ثمرة ذلك المجهود التعبوي لرجال الدين الحروب الصليبية التي شُنت على الإسلام ما بين عامي 1096 و1291م.

خضعت صورة الإسلام في الوعي الجمعي المسيحي لعدة تطورات تبعاً لاستمرارية المد الإسلامي وطبيعة النزاع بين الإسلام والمسيحية، فهناك صور أخرى نسجت عن الإسلام مع بداية الحروب الصليبية واحتلال بيت المقدس، وأبطالها هذه المرة ليسوا رجال الدين، ولكنهم مجموعة من المؤرخين والمتخصصين الذين رافقوا الحملات الصليبية وصنفوا الكثير عن الشرق وأهله.

كان بأيدي هؤلاء المستشرقين أن يغيروا الإدراكات والصور الأولى التي كرسها الخطاب الكنائسي في المخيلة المسيحية على شاكلة الأساطير وبشكل ينم عن جهل بمبادئ الإسلام وفكر أتباعه، وذلك بحكم أن حملاتهم التي شنوها على الشرق مثلت أول تفاعل مباشر بين الإسلام والمسيحية، إلا أنهم -على العكس من ذلك- نقلوا إلى شعوبهم صورة أكثر قتامة وسلبية من تلك التي رسمها القساوسة والبطاركة.

فالصورة التي رسمها المستشرقون الأوائل عن الإسلام عملت من جانب على تعزيز الصورة الأولى التي رسمها الخطاب الكنائسي، والتي أظهرت الإسلام كدين للخرافة والجهل، وأما أتباعه فهم أعداء للحضارة وأقرب إلى الهمجية والتوحش، وهم ذوو شهوة يستعبدون النساء وينظرون إليهن ليس أكثر من أدوات للمتعة.

تلك الصورة الجديدة والمشوشة لم تكن موضوعية، بل كونت بناء على أحكام سابقة وظهرت لتعبر عن النمط الذي أراد المستشرقون أن يروا به الإسلام والمسلمين، وليس كما هم عليه في الواقع.

إعلان

الصورة التي تكونت عن الإسلام أثناء العصر الأول ظلت هي المرجعية المستحوذة، ويجزم الكثير من المتخصصين مثل إدوارد سعيد وشاهين وبرنارد لويس وجون إسبوسيتو أن العقل المسيحي لم يستطع الخروج منها أو تجاوزها، يدفعه خوفه من الإسلام بعيدا عن الموضوعية والعقلانية في دراسته ونقله عنه.

بقي الغرب متخندقاً وراء الصورة المشوهة عن الإسلام، وظلت البحار حاجزاً يعيق التفاعل بين الحضارتين، ويمنع أي فرصة لتغيير تلك الأنماط السلبية التي كوّنها -ربما- كل طرف عن الآخر. وعلى الرغم من أن الأندلس مثلت تفاعلاً ونموذجا فريدا للتسامح بين الغرب والشرق لقرون عديدة، فإنها كانت هي نفسها معزولة عن الخلافة والدولة الأم، منذ أن استقل بها عبد الرحمن الداخل بداية القرن الثاني الهجري. ومع ذلك ظل الغرب المسيحي ينظر إلى الأندلس بنظرة مغايرة، مصنفاً أهلها ومسلميها بالمتمدنين والمختلفين تماماً عن المسلمين في الشرق.

توسع العثمانيين باتجاه الغرب أرضاً وإنساناً، مما خلق هستيريا مسيحية يمزجها الإحباط والخوف. وبسبب التفوق العثماني العسكري والاقتصادي في حينه ولقرون، لم يكن هناك من خيار أمام أوروبا المسيحية إلا أن تنكفئ على نفسها وتكثر من تلك الشائعات المعززة للصورة السلبية عن الشرق الإسلامي
إعلان

شهدت الحضارتان تفاعلا مباشرا مرة أخرى منذ القرن الأول من تأسيس الدولة العثمانية، إلا أن ذلك التفاعل أخذ طابعاً عسكرياً من خلال الثكنات والحروب على الثغور. شعر الغرب بالتهديد الإسلامي وخطورته مرة أخرى حين سقطت القسطنطينية عاصمة الدولة البيزنطية عام 1453م، فتلك المدينة كانت بمثابة القلب من الجسد لأوروبا المسيحية على يد الأتراك العثمانيين. وقد كتب أحد البطاركة المسيحيين في حينها "أن أقدم وأعرق عاصمة مدنية على الأرض، سقطت على يد أكثر البرابرة همجية وأكثرهم شراً على مدى التاريخ".

تسبب ذلك في جرح غائر لأوروبا، حيث أصبح أملها وحلمها في القضاء والتخلص من الكابوس الإسلامي المهدد لها شبه مستحيل، وبعد أن كانت تراه ممكناً بعد حروبها الصليبية وحروب بدأت تشنها عام 1236م لاسترجاع الأندلس، ترك ذلك السقوط أثره العميق على المخيلة الأوروبية تماماً كنفس الجرح والأثر اللذين تركتهما الحروب الصليبية على المخيلة الإسلامية.

توسع العثمانيون باتجاه الغرب أرضاً وإنساناً مما خلق هستيريا مسيحية يمزجها الإحباط والخوف، وبسبب التفوق العثماني العسكري والاقتصادي في حينه ولقرون، لم يكن هناك من خيار أمام أوروبا المسيحية إلا أن تنكفئ على نفسها وتكثر من تلك الشائعات المعززة للصورة السلبية عن الشرق الإسلامي.

إعلان

ظلت الصراعات على البحار وممراتها ومرافئها هي المحدد في العلاقة بين الحضارتين، كما أن سيطرة العثمانيين شبه الكاملة على الممرات البحرية وحصارها المطلق لأوروبا دفع الأخيرة إلى أن تبحث لها عن ممرات أخرى، وكان منتهاه أنها اكتشفت العالم الجديد. وساهم ذلك في انتعاش أوروبا ونهضتها وتفوقها على الشرق الإسلامي، وذلك لحصولها على موارد ضخمة من الأرض الجديدة.

منذ ذلك الوقت أضحت السيطرة على أرض وشعوب جديدة الهاجس والمحرك الدافع للغرب، فتحركت أساطيل كبيرة لتجوب العالم، وبدأت حركات استعمارية واسعة، ومع ضعف الخلافة العثمانية وانحسارها كان للشرق المسلم نصيب من ذلك الاستعمار الذي جثم على أرضه وأهله لعقود وأحياناً لقرون عديدة.

مع بداية الحركات الاستعمارية برز الاستشراق كظاهرة جديدة، وذلك عبر إرسال بعثات للدراسة والتأليف عن الإسلام وأهله. ادعى رواد حركة الاستشراق أنهم يدرسون ويؤلفون عن الشرق بمنهجية علمية متجردة، ورغم كثرة المؤلفات والمصنفات التي امتلأت بها رفوف المكتبات، فإنها لم تُسهِم -ولو قليلا- في تغيير تلك الصورة السلبية التي تكونت في مخيلة المسيحي على مدى قرون متوالية عن الإسلام والمسلمين.

إعلان

ولغياب الموضوعية، فشل المستشرقون في تقديم الإسلام كما هو للشعوب والأفراد المسيحيين، بل على العكس أسهموا بشكل أكبر في تكريس وترسيخ الصورة النمطية وتقديمها بشكل منهجي، ولكنه انتقائي أحيانا وإقصائي أحياناً أخرى.

تكمن الإشكالية في تعريف مصطلح الإرهاب المطاطي وتحديده، فأضحى الإرهاب يعني استخدام العنف من قبل أي عدو ضد الولايات المتحدة نفسها، ولا يكون إرهاباً استخدامُ العنف ضد أي طرف آخر غيرها. والتطرف ذاته أصبح مصطلحا عائما وشائكا، فمن الصعب بمكان تحديد أين ينتهي الاعتدال ويبدأ التطرف، حيث لا فواصل حددت بينهما

فالصورة التي كرستها تلك الدراسات شكلتها ذهنية غربية ترى في ذاتها نموذجاً للتفوق الغربي والتقدم الحضاري والرُقي المدني، بينما ترى في الآخر الشرقي المسلم النقيض لها تماما، باعتباره نموذجاً للتخلف والهمجية والعنف والدونية. فالصورة الاستشراقية الحديثة كانت مغايرة لما قبلها، حيث كانت الصورة الأولى نتاجا لهاجس الخوف والشعور بالنقص عند المسيحية أمام الآخر، بينما كانت الصورة الأخيرة نتاج الشعور بالتفوق في الذهنية المسيحية ونظرتها للآخر بالنقص والدونية.

ظلت تلك الصورة الجديدة سائدة وتمثل العدسة التي ينظر من خلالها المستعمر إلى الإسلام وأهله. إلا أن كل الصور التي تشكلت نتاجاً للخطاب الكنائسي والحملات الصليبية أو الاستشراق، ظلت حبيسة رفوف المكتبات والكنائس. ولكن تحوّلا بدأ عام 1973 حين قرر الملك فيصل وقف تصدير النفط وحظره عن أوروبا.

ذلك الحدث مثل نقطة مفصلية في تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب، حيث أسهم بدور كبير في تسليط ضوء الإعلام الغربي على العرب المسلمين. وبذلك خرجت الكثير من الصور التي تشكلت عن الإسلام والمسلمين من رفوف المكتبات والكنائس إلى صفحات وسائل الإعلام وشاشاتها. حينئذ بدأت الصحف والشاشات تعج بتلك الصور التي تصور العرب كبدو همجيين وقبائل متخلفة، وراكبي الجمال وتجار العبيد، ومروجي الحروب، وأغنياء يحبون النساء بطريقة سادية.

وباندلاع الثورة الإيرانية عام 1979 خرجت -وبنفس الوتيرة- الصورة النمطية التي تصور المسلمين كإرهابيين وتربطهم بالعنف والوحشية من منابر الكنائس إلى منابر الإعلام والمؤسسات الأكاديمية. وهكذا ظل الغرب نمطياً في تصوراته عن الشرق المسلم، ضحية لتعصب واعظيه وباحثيه تارة، ولجهله بالآخر تارة أخرى.

مثلت أحداث 11 سبتمبر/أيلول 2001 فصلاً جديداً للعلاقة بين الإسلام والغرب، فبعد أن كان الصراع متسماً بطابع المصالح والنفوذ، أخذ ينحو منحى آخر يغلب عليه الجانب العقائدي والأيدولوجي. فكانت أولى تبعات تلك الأحداث، أن تم تصنيف الإسلام والمسلمين إلى معتدلين ومتطرفين، فيُنسب الإرهاب إلى متطرفيهم، ولم يُعرف أي شيء بشأن معتدليهم.

وتكمن الإشكالية في تعريف مصطلح الإرهاب المطاطي وتحديده، فأضحى الإرهاب يعني "استخدام العنف من قبل أي عدو ضد الولايات المتحدة نفسها"، ولا يكون إرهاباً استخدام العنف ضد أي طرف آخر غيرها. والتطرف ذاته أصبح مصطلحا عائما وشائكا، فمن الصعب بمكان تحديد أين ينتهي الاعتدال ويبدأ التطرف، حيث لا فواصل حددت بينهما.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.



إعلان