العراقية إنعام كجه جي: الحنين زاد المهاجر
تعيش كجه جي منذ عقود في مهجرها بباريس التي أكملت فيها دراستها، ويروقها أن تبقى الذاكرة حية وخصبة تقاوم حرائق الحاضر، وهي تعتقد أن المصائر الملتبسة والمزعزعة والقلقة هي التي تستدعي الكتابة، لا الشخصيات المحايدة والمستقرّة.
الأحداث التي تجري في بلدي سبب إضافي للتشبث بالتفاصيل والنبش في الذاكرة المراد تجريفها، من خلال شخصيات روائية أتعمد اختيارها لإنجاز هذه المهمة |
كما تبدي سعادتها بوصول ثلاث روايات عراقية اللائحة الطويلة، وترى أن الرواية العربية لم تلفت بعد لأنظار في الغرب كما فعلت رواية أميركا اللاتينية أو الرواية اليابانية. عن روايتها "طشّاري" ورؤاها وخلفيات شخصياتها واشتغالها في عملها المميز وجائزة البوكر، كان الحوار التالي:
– ليس في الأمر من رموز. إنها شخصية واقعية عرف مجتمعنا الآلاف من أمثالها على امتداد تاريخه الحديث. وهي نموذج للأُمهات اللواتي عانين من فراق الأبناء والأحفاد الذين سلكوا طريق الهجرات، لأسباب سياسية، أو سعيا وراء الرزق، أو طلبا للأمان في بلد توالت عليه الحروب والنزاعات الطائفية.
– ليتني كنت من البلاد التي يكتب روائيوها قصص العشق أو التشويق البوليسي أو الخيال العلمي. الحرب حاضرة في كتاباتي مثل القدر الأعمى. لقد دمرت العراقَ الذي ولدت فيه وكبرت ودرست وتزوجت وأنجبت طفلي الأول فيه. وعندما سافرت للدراسة كنت أظن أنها فاصلة زمنية سريعة وبعدها نعود إلى حضن الوطن. ثم مرت السنوات وتلاشت آمال العودة وبتنا نحلم ونغني مثل الفلسطينيين: "سنرجع يوما إلى حيّنا".
لما بدأت أكتب الروايات، وجدت نفسي برفقة شخصيات كسرتها الحروب والمنافي وقادتها إلى مصائر غير محسوبة. هؤلاء هم أصدقائي ومعارفي وأهلي الذين يملون علي حكاياتهم. وما بقي يتكفّل به الخيال.
وجود ثلاث روايات في القائمة الطويلة هو اعتراف متأخر بالفورة الروائية التي يثابر عليها كتّاب من داخل العراق وخارجه. والعراق الذي كان أرض الشعر بامتياز، هو اليوم حقل تنبت فيه الروايات بالمئات |
وأظن أن المصائر الملتبسة والمزعزعة والقلقة هي التي تستدعي الكتابة، لا الشخصيات المحايدة والمستقرة. من من العراقيين لا يتصارع مع نفسه وهو يتابع ماضيه يتبدّد ويقوم محله وحش هجين لا يرتوي من الدماء..؟!
– كل الأماكن تصلح لجمع الشمل المتشظي، حتى ولو كانت مقبرة. ولا يمكن القطع مع الماضي لأنني أعتبره الأساس الوحيد الذي يصلح لأن نسترجع قيمه وتسامحه ونبني عليه بناء مستقرا. إن إسكندر يكتشف بفضل الدكتورة وردية أنه يتحدر من شعب عجيب في تنوعه، وأنه بات يمتلك قصة لا يمكن لأي من رفاقه الفرنسيين في المدرسة أن يحظى بمثلها.
نعم، يروقني أن تبقى الذاكرة حية وخصبة تقاوم حرائق الحاضر. إنها التميمة التي تحفظها الجدات للبنات، والفسيلة التي يرعاها الأجداد لكي يعيد الأحفاد تشجير غابات النخيل. وقد أبدو مثالية وأنا أقول هذا الكلام، ولكن كيف يمكن احتمال مرارة هذه الحقبة من دون قطرة من الرومانسيّة؟
– لعل الحنين زاد المهاجر، بل إن الأحداث التي تجري في بلدي سبب إضافي للتشبث بالتفاصيل والنبش في الذاكرة المراد تجريفها، من خلال شخصيات روائية أتعمد اختيارها لإنجاز هذه المهمة.
وفيما يخصني، فقد تعايشت مع غربتي بعقلية شديدة الواقعية، ومضيت أعمل وأتطور وأُرعى أُسرتي وصداقاتي وأُحاول التغلب، قدر الإمكان، على فكرة خسارة مسقط الرأس. إن المغترب خاسر، برأيي، مهما حقق من نجاح. ولا بديل عن أُلفة الأماكن والملامح واللغة. ولو تركت الحنين يستبد بي لجننت من زمان.
العالمية تعني أن تصل الكتب إلى آلاف القراء وبعدة لغات وهذا ما زال نادرا في أدبنا المترجم حديثا، وليست هناك التفاتة كبرى نحو الرواية العربية في الغرب |
-أنا سعيدة لأن وجود ثلاث روايات في القائمة الطويلة هو اعتراف متأخر بالفورة الروائية التي يثابر عليها كتاب من داخل العراق وخارجه. والعراق الذي كان أرض الشعر بامتياز، هو اليوم حقل تنبت فيه الروايات بالمئات، لا بالعشرات.
كأن كل واحد من كتابنا يريد أن يمسك بالزلزال من تلابيبه قبل أن تبرد الحمم وتغدو حجارة. وإذا كان بعض تلك الكتابات لا يمتلك شروط الفن الروائي فإن الممارسة كفيلة بتطوير التجارب. أما الحظوظ فإنها محكومة بذائقة المحكمين.
– ترجمة أي رواية لا تعني وصولها إلى العالمية. إن العالمية تعني أن تصل الكتب إلى آلاف القراء وبعدة لغات وهذا ما زال نادرا في أدبنا المترجم حديثا، وليست هناك التفاتة كبرى نحو الرواية العربية في الغرب، كما حصل مع رواية أميركا اللاتينية أو الرواية اليابانية. ويكفي أن البوكر وغيرها من الجوائز الأدبية قد تساهم في لفت نظر القارئ العربي الذي خرج ونأمل أن يعود.